نستطيع أن نزعم بأن الصفحات الثقافية بالجرائد والصحف والمجلات هي الأكثر وزنا وقيمة، وفي المقابل نقول، بشبه يقين- ولا شماتة- إن هذه الصفحات هي الأقل مقروئية. ومعناه أن كثيرا من القراء، وهم قلة على العموم، يقفزون على هذه الصفحات قفزا، ولكل واحد منهم أسبابه، لعل من بينها أنها لا تلبي حاجة حيوية لديه، ما لم نقل إنها تبدو لبعضهم كما لو لم يكن لها محل من الإعراب. ولأنه من السهل الالتفاف على هذا المعطى المزعج بتحميل التبعات كلها للقراء جبرًا لخواطر بعض كتاب هذه الصفحات وقرائهم، إلا أن الشجاعة الأدبية تقتضي منا مساءلة الصفحات أولاً قبل المتصفحين. فإذا كانت صفحات الأخبار والرياضة والمنوعات تستقطب العموم، فإن الصفحات الثقافية لا تكاد تثير اهتمام أحد عدا شريحة متواضعة جدا من المتأدبين مادام الطاغي على موادها هو الأدب لا الثقافة في تنويعاتها المختلفة، الأمر الذي يطرح أسئلة حول جدواها باعتبارها منتوجا لا يلقى الرواج المطلوب رغم جودته في المطلق. ومع ذلك فإن الدعوة إلى حذف ما هو ثقافي من جرائدنا وصحفنا ومجلاتنا، بل مجرد التفكير في ذلك، قد يعتبر نوعا من الإفلاس الأخلاقي والقيمي لأن الثقافة- شئنا أم أبينا- هي درعنا الواقي من التآكل واليباس، بل إنها شرط لكينونتنا الآدمية (أهي كذلك فعلا؟!). لكن لابأس من القول بأن شيئا ما في فهمنا للثقافة، لا في الثقافة ذاتها، على غير مايرام، سيما أن مستوى الخطاب الثقافي في الجرائد والصحف والمجلات لا يناسب مدارك العموم، فهو في مجمله نخبوي، استعلائي، وهو بالتالي يُقصي من دائرة الاستهداف أكبر عدد ممكن من القراء هو المفتقر إليهم أصلا. هذا من جهة، ومن جهة أخرى، فإن الخائض في الشأن الثقافي، أي الكاتب في الصفحات الثقافية، لا يبغي التواصل، في المقام الأول، مع قرائه بقدر ما يرمي، من خلال التمحل والادعاء، إلى التأكيد على أنه شخص مثقف، حتى لو تناقض فعله هذا مع تحقيق الغايات التواصلية، خاصة أنه قد يظن- وظنُّه ليس كله إثما- أنه إذا ما تبسّط في الحديث في الثقافة وعنها سيتم التقليل من شأنه من طرف قرائه. وسواء أكان هذا الاعتقاد يقينا أم ظنا فإنه (أي الكاتب في أركان الملاحق الثقافية) بات أسيرا لعطب في الرؤية وفي كيفية التعبير لا في محتواه وحسب. من الممكن هنا أن نلتمس الأعذار للشعراء والقصاصين الذين يطعّمون المساحات الفارغة (التي يتهددها وحش الإشهار) بأطباق من الأشعار والقصص والخواطر- التي مهْما ارتقتْ تظل بسبب الإهمال والتجاهل أشبه بوجبات بائتة- لأنه لا يمكن لهم، حتى لو أرادوا، أن يكيّفوا إبداعاتهم إرضاء لسواد عيون قراءٍ مشاربُهم شتى. لكن لا عزاء لكُتاب المقالات والأعمدة حين يخلطون في كتاباتهم- وهم يكتبون- بين مدرجات الجامعة ومنابرَ وُضِعت لتكون في متناول العموم. * كاتب