تعيش فرنسا هذه الأيام على إيقاع الجدال حول مشروع إصلاح المجال السمعي البصري، الذي تقدم به الرئيس ساركوزي. وإذا كان المشروع حظي بترحاب الأغلبية البرلمانية وجهات أخرى لها مصالحها فيه فإنه، خلافا لذلك، يجد معارضة شديدة من قبل أطراف أخرى ترى فيه لجما للحريات وتجاوزا للقيم الديمقراطية وحرية التعبير. مجلة «ماريان» تتبعت الموضوع وأنجزت حوله ملفا خاصا يسير كله في اتجاه معارضة المشروع، بل فتحت عريضة احتجاجية ضده وقع عليها عدد من الوجوه البارزة في فرنسا؛ وهو الملف الذي اقتبسنا منه هذا المقال. نيكولا ساركوزي «يتحكم» اليوم، بشكل غير مباشر، في عدد من وسائل الإعلام السمعي البصري الخاصة بفضل صداقاته المتعددة مع مارتن بويغ، مثلا، وأرنو لاغاردير وفانسون بولوري. طبعا، فالرئيس يستعد، غدا، لبسط سيطرته المباشرة، هذه المرة، على كافة القنوات التلفزية والإذاعات العمومية من خلال التحكم في تعيين وفصل المسؤولين، حسب هواه، عن تلفزيونات وإذاعات فرنسا. لقد صار الوضع في فرنسا مشابها، تقريبا، للوضع في روسيا مع فارق أنه في فرنسا لا يُغتال الصحافيون، كما قيل. سنعيد السؤال ما يكفي من المرات لو اقتضى الأمر: في أي بلد ديمقراطي في العالم، غير فرنسا، يقدم الرئيس على الاستحواذ، ليس فقط على حق الموت أو الحياة بالنسبة إلى القنوات العمومية عن طريق التحكم في تمويلها، بل على حق الانفراد بامتياز اختيار وتعيين رؤساء المؤسسات العمومية المذكورة دون أي رقيب جدير بهذه الصفة؟ إنه حدث لا يقع إلا في فرنسا مع استثناء روسيا بوتين وصين هو جينتاو وكوريا كيم جونغ إيل أو جمهوريات الموز الإفريقية... لكن وبالرغم من الرقابة الممأسسة في روسيا، مازالت هنالك في موسكو، على الأقل، محطة إذاعية معارضة حقيقية تسمى «Ekho Moskvy» (صدى موسكو)، التي يديرها أليكسي فنيديكتوف. صحيح أن الإذاعة مملوكة للمؤسسة العملاقة غازبروم، إلا أنها تنتقد بشدة السلطات الروسية. ماهي، إذن، هذه القنوات التي سيبقى لها من الجرأة ما تعارض به رئيس الدولة وتنتقد سياسته الاجتماعية والاقتصادية والخارجية بكل حرية، غدا، حين يُصادق على هذا الانقلاب الإعلامي من قبل البرلمان الفرنسي؟ كيف سيكون الجدال الديمقراطي حول التلفزيون والإذاعة، عشية الانتخابات الرئاسية لسنة 2012، عندما سيكون الرئيس، الذي لا محالة سيترشح لخلافة نفسه، هو الذي يعين رؤساء التلفزيونات العمومية؟ هل هذه هي «الديمقراطية الحقة» التي وعد بها نيكولا ساركوزي شعبه خلال الحملة الرئاسية الأخيرة؟ هل هذا هو «نظام التعيين العادل والشفاف» الذي كان يقسم باعتماده بمناسبة التصويت على الإصلاح الدستوري؟ هل هذا هو معنى «ممارسة السياسة بطريقة أخرى»؟ كذب ورقابة صحيح أن الرقابة الممارسة، اليوم، في روسيا لا علاقة لها بالرقابة في فرنسا. لكن عندما سيكون رؤساء تلفزيونات وإذاعات فرنسا مدينين بمناصبهم للرجل الأول في الإليزيه وحده، ألن يصبح المجال السمعي البصري الفرنسي، العمومي والخاص معا، مهددا بأن يصير مشابها للمجال الروسي؟ ففي موسكو، الحكومة هي التي تقرر في ميزانية أكبر قناتين فيدراليتين في البلاد، بيرفي كنال وروسيا تي في، بينما تتحكم مؤسسة غازبروم (التي تسيطر فيها الدولة الروسية على أغلبية الأسهم) في قناة إن تي في، القناة الخاصة الرئيسية في البلاد. أي مجال سمعي بصري مستقبلي يحضره، اليوم، ساركوزي وأصدقاؤه؟ مؤخرا، وقع المعارض السابق فلادمير بوكوفسكي والفيلسوف أندري غلوكسمان، صحبة 200 شخصية أخرى، عريضة احتجاجية، «باسم احترام قيم حرية الإعلام»، على إقفال راديو فرنسا الدولي باللغة الروسية. أكيد أنهم على حق. لكن لماذا لا نسمعهم يحتجون في الوقت الذي يستعد فيه رجل واحد، في فرنسا، ليحكم بدون منازع على فرانس2، وفرانس3، وفرانس4، وفرانس5، وفرانسO، وفرانس أنتير، وفرانس أنفو، وفرانس كولتور...؟ لماذا لا تقام العرائض الاحتجاجية ضد هذا الرئيس الذي بدأ، منذ الآن، يشعر، وهو عند صديقه بويغ (تي إف 1 وإل سي إي)، بأنه في بيته بين أهله؛ الأمر نفسه ينطبق على صحيفة لوفيغارو وصديقه سيرج داسو، ومجموعة بولوري وصحيفة «ليزيكو» لبرنار أرنو، اللتين يشرف عليهما نيكولا بايتو، الموالي لساركوزي، والمنابر التابعة لمجموعة لاغاردير(أوربا1، باري ماتش...)؟ صحيح أن ساركوزي ليس هو بوتين، ولا بيرليسكوني، لكن ما يستعد ساركوزي للقيام به في فرنسا لم يجرؤ لا فلادمير بوتين ولا سيلفيو بيرلسكوني على القيام به في بلديهما. وهو ما كان لأحد النواب، فرانسو باروان، المنتمي إلى حزب الرئيس، الجرأة على فضحه في قوله: «يصعب علي أن أفهم كيف يمكننا أن نقدم، ونحن في سنة 2008، قرارا يعود بنا إلى 25 سنة إلى الوراء على أنه تقدم». إلا أنه لا أحد من المسؤولين في القنوات التلفزيونية أو الإذاعات الخاصة فطن إلى فكرة دعوة هذا الرجل، المنتمي إلى الأغلبية، إلى الحديث عن موقفه. لنقلها، إذن، بدون مواربة. هذا الإصلاح يعد انحرافا ديمقراطيا، قريبا من الجريمة. والجريمة تصبح أكثر بشاعة عند محاولة إضفاء الفضيلة عليها. ماذا يقول لنا في هذا الموضوع فرديريك لوفيبر وجون فرانسوا كوبي من الأغلبية وأمثالهم؟ 1: إن القانون الجديد سيخلص، أخيرا، القنوات العمومية من دكتاتورية نسبة المشاهدة. صحيح، لكن بغاية إخضاعها أكثر لشكل آخر من السلطة السياسية، التي لم تعد ممثلة إلا في رجل واحد، هو نيكولا ساركوزي. تحيا الاستقلالية! 2: إن طريقة تعيين الرؤساء المدراء العامين الجديدة ستضع حدا لسنوات من النفاق لم يغامر، المجلس الأعلى للسمعي البصري خلالها، أبدا بتعيين رئيس لا يوافق عليه الإليزيه. يحيا التقدم ! 3: إنه في ظل تراجع سوق الإشهار سيكون هذا الإصلاح بمثابة قارب النجاة والاستمرار بالنسبة إلى الخدمة العمومية. قمة النفاق. فعندما أعلن رئيس الدولة عن المشروع، في 8 ينايرالأخير، لم يكن في سوق الإشهار من علامة على الأزمة ! 4: إن هذا الإصلاح لا يعطي الامتياز لقناة «تي إف1» لأنها ما فتئت تنتقد وتشتكي من انعكاسات الإصلاح الجديد عليها. هذا غير صحيح. فقد أصبح معروفا اليوم لدى العموم أن هذا القانون نسخة مطابقة لكتاب أبيض صاغته «تي إف 1» ووجهته إلى نيكولا ساركوزي في شهر دجنبر 2007، أي أقل من ثلاثة أسابيع قبل إعلان رئيس الدولة عن مشروع الإصلاح. 5: إن تمويل القنوات سيكون مضمونا من قبل الدولة. وهذه كذبة أخرى. فلن يقتصر الأمر، فقط، على كون الضرائب المحصل عليها، لتعوض خسارة الإشهار الذي سيختفي والبالغة قيمتها 450 مليون أورو، لن تذهب مباشرة إلى السمعي البصري، بل سيتعين توفير مبلغ 1.2 مليار أورو أخرى، في حين أن الجميع يعرف أن صناديق الدولة فارغة. ومنذ الآن، يمكن توقع التتمة المنطقية لسيناريو الإصلاح الكارثي. فإذا حدث أن كانت نتائج القنوات العمومية سيئة في أفق نهاية سنة 2011، فسيُطرح حينها احتمال خوصصة إحداها أو عدد منها، وبيعها، إذن، بثمن رمزي لأحد «أصدقاء الرئيس». تراجع كبير لو شهدت ديمقراطية «عادية» أخرى ما حدث في فرنسا من حيث الإقدام على سحب أهم الصلاحيات من المجلس الأعلى للسمعي البصري لكان هذا الأخير بادر إلى الاحتجاج ضد هذا القرار والتنديد به. إلا أن ما حدث في فرنسا كان مخالفا لذلك. فقد هنأ رئيس المجلس، ميشال بويون، نفسه على ما حدث. ومما لا شك فيه أن السبب في ذلك هو أن الرئيس تلقى ضمانة مؤكدة بأنه سيحتفظ بمنصبه حتى نهاية ولايته؛ ولأنه يعرف، كذلك، أن المجلس الأعلى للسمعي البصري سينتهي إلى الزوال من خلال دمجه في مؤسسة سلطة تقنين المواصلات اللاسلكية. حينها لن يكون للقنوات التلفزيونية ورؤسائها إلا مخاطب واحد، هو رئيس الجمهورية، وحده لا ثاني له. في ديمقراطية «عادية» أخرى كان على النواب البرلمانيين، بمختلف مشاربهم السياسية، أن يمنعوا إصلاحا يلغي حقوق البرلمان نفسه، وليس له إلا هدف واحد يتمثل في العمل يوميا على تجميع مجموع السلط بين يدي شخص واحد. في ديمقراطية «عادية»، كان على الحزب المعارض الرئيسي أن يؤجل جميع خلافاته الداخلية ليقاوم، بلا هوادة، مشروعا يمرغ في التراب بعضا من أغلى القيم الجمهورية... سلطة مضادة واحدة يمكنها أن تواجه هذا القرار الكارثي في إطار المشروعية. إنها سلطة المواطنين، سواء كانوا مشاهدين أو لا، مستمعين أو لا لمنابر السمعي البصري العمومية، لأن المعاني الحقيقية لما يحصل الآن هي أن هنالك دواعي عاجلة للتحرك.