استوقفني قرار حديث للمجلس الأعلى في المادة الاجتماعية، جاء في حيثياته ما يلي: «لا يكفي بلوغ الأجير 60 سنة للقول بأنه أصبح في حكم المتقاعد، بل يتعين على المشغل قبل إقدامه على إحالة الأجير على التقاعد أن يتأكد أن هذا الأجير قضى فترة التأمين المحددة في الفصل 53 من ظهير 27/7/1972 المتعلق بنظام الضمان الاجتماعي، أي على الأقل 3240 يوما من التأمين...». إن الفكرة الأساسية التي أكد عليها هذا القرار أن الإحالة على التقاعد العبرة فيها باستيفاء مدة التأمين، والتي حددها تشريع الضمان الاجتماعي وليس ببلوغ الأجير سن التقاعد وإلا تم تأخير التقاعد بالاستمرار في العمل إلى غاية استيفاء مدة التأمين المطلوبة. والواقع أن هذا القرار ذهب في نفس المنحى الذي تبناه المشرع في الفصل 53 من ظهير 27 يوليو 1972 المتعلق بالضمان الاجتماعي والفصل 526 من مدونة الشغل، والتي هي استمرار في هذا التوجه في التعامل مع مسألة الشيخوخة، فهذا القرار عمد فقط إلى إعمال النصوص القانونية الجاري بها العمل في الاستفادة من راتب الشيخوخة من عدمه، وأمام هذا القرار أجد نفسي أتساءل كيف لهذا الشيخ الطاعن في السن أن يستمر في العمل، والذي قد يصل في هذه المرحلة من عمره إلى فقدان القدرة على العمل أملا في المعاش الذي يأتي أو لا يأتي، كما أتساءل أيضا أمام زحمة البطالة إن كان المشغل يقبل استمرار العامل الذي بلغ هذا السن المتقدم في العمل، في حين أنه يملك هامشا واسعا من الشباب المتعطش للالتقاط أول فرصة للعمل وفي كل التخصصات. فإذا كانت الشيخوخة هي الوضع الطبيعي الذي ينتهي إليه كل عامل بعد أن قضى زهرة أيامه في العملية الإنتاجية، كيف ما كان نوعها، ليجد في الأخير راتبا من المعاش ينهي به بقية أيامه، وهذا ما أكدت عليه كل مبادئ الحماية الاجتماعية، غير أن واقع الشيخوخة عندنا هو معاناة بكل ما تحمل الكلمة من معنى، فالعامل في مثل هذه المرحلة من عمره يصل إلى كل أنواع العجز والمرض، حيث يتطلب رعاية خاصة تكرمه عن كل السنوات التي قضاها في خدمة اقتصاد بلاده. فالمشرع المغربي ربط استحقاق الأجير لراتب الشيخوخة بتوافر شرطين أساسيين: بلوغ الأجير سن الستين، أو خمسة وخمسين سنة بالنسبة إلى عمال المناجم الذين يثبتون قضاءهم لخمس سنوات من العمل في باطن الأرض، وتأمين المدة المطلوبة في حدود 3240 يوما من التأمين، في حين أن الشيخوخة يجب النظر إليها باعتبارها مرحلة من العمر يلزم على الأجير الاستراحة فيها دون عناء.. عندما اشترط المشرع هذا العدد من أيام التأمين لم يتم التعامل مع مسألة الشيخوخة على أنها خطر اجتماعي في حد ذاته، وإنما بما يتم دفعه من أيام التأمين. لكن الإشكالات التي تطرح هي: ما هي الحلول في حالة وصول الأجير إلى سن الستين دون أن يتمكن من جمع مدة التأمين اللازمة؟ وكيف سيواجه مرحلة الشيخوخة، خاصة وأن الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي لا يسمح له باسترجاع مبالغ الاشتراكات؟ وحتى وإن تم العمل على استرجاعها؟ ماذا يمكن أن تقدم له بالنظر إلى هزالتها لمواجهة متطلبات الحياة اليومية؟ تلك هي المعضلة التي يواجهها العديد من العمال الذين يقبلون على التقاعد دون أن يتمكنوا من توفير مدة التأمين الإجبارية، خاصة ونحن ندرك طبيعة وضعية سوق العمل، والتي لا يمكنها استيعاب كل الباحثين عن العمل، أضف إلى ذلك التهرب الذي قد يمارسه بعض المشغلين، كالالتفاف على التصريح بالأيام الفعلية للعمل، خاصة في القطاعات غير المهيكلة، والتي تعرف انتشارا لهذه الظاهرة، مما يلزم على العامل قضاء مدة التأمين مضاعفة في بعض الأحيان للوصول إلى الحد الأدنى من التأمين، فالتقدم في السن سيكون عائقا للاستمرار في العمل، بل إن هذا العامل لن يسعف حتى المشغل في الاستعانة بخدماته في هذه المرحلة من العمر، خاصة وأن المشرع ذاته يعترف للمشغل بأحقيته في التخلي عن الأجير الذي فقد القدرة على العمل، وأعتقد أن هذه تعد ذريعة كافية للمشغل للتخلص من أجيره المتقدم في السن دون أن يؤدي له أي تعويض، وذلك اعتمادا على الفصل 272 من مدونة الشغل والتي تنص على أنه يمكن للمشغل أن يعتبر الأجير في حكم المستقيل، إذا فقد الأجير قدرته على الاستمرار في مزاولة شغله، خاصة وأنه تجاوز سن التقاعد، ليجد الأجير نفسه في النهاية في مفترق الطرق، فهو من جهة لم يعد يملك القدرة البدنية على العمل، ومن جهة أخرى فإن المشغل يمكنه أن يحتج ضد كل محاولة لإلزامه بتشغيل أجير فقد قدرته على العمل، وأنه ليس جمعية خيرية وإنما يؤدي أجورا مقابل الخدمة المقدمة لمصلحة المقاولة، وأن القول بغير ذلك هو إجحاف في حقه. لهذه الاعتبارات، أعتقد أن التعامل مع مسألة الشيخوخة يجب النظر إليها ليس من جانب حجم مساهمات الأجير ومدتها، وإنما من جانبها التضامني، ليتحمل المجتمع مسؤولياته أمام مسنيه الذين شاركوا في عملية التنمية. إن مبادئ الضمان الاجتماعي تستلزم استفادة العامل من معاش الشيخوخة بمجرد بلوغه السن القانوني بغض النظر عن مدة الاشتراك، لأن الضمان الاجتماعي يجب النظر إليه على أنه خدمات تقدم إلى فئة المسنين وهم في خريف عمرهم، في مقابل الفهم الذي تقدمه شركات التأمين بخصوص التأمين عن الشيخوخة والتي تعتمد الطريقة الحسابية على ضوء اشتراكات المنخرطين، خاصة وأن فرص العمل أصبحت محدودة بالنسبة إلى فئة الشباب، فبالأحرى أن يقدم المشغل على تشغيل شيخ طاعن في السن، لهذا أعتقد أن مسألة معاش الشيخوخة تتطلب تدخلا تشريعيا لإيجاد صيغة جديدة تأخذ بعين الاعتبار فكرة التضامن الاجتماعي لإنصاف هذه الفئة من المجتمع، دون الوقوف عند الإكراهات المالية للصندوق الوطني للضمان الاجتماعي التي يمكن أن يتحملها جراء رواتب الشيخوخة لمدة طويلة، فالسياسة الاجتماعية ما هي إلا فلسفة لإعادة توزيع للدخل بين مختلف شرائح المجتمع في كل أنظمة الضمان الاجتماعي، لكن يبدو أن التعويضات التي يمنحها صندوق الضمان الاجتماعي ليست مقررة في إطار حماية اجتماعية حقيقية، وإنما هي مقررة في حدود ما تسمح به التوازنات المالية للصندوق، لهذا فالسياسة الاجتماعية في مجال الحماية الاجتماعية تبقى قاصرة أمام قسوة الشروط وضآلة التعويضات، حيث تظل بعض المخاطر الاجتماعية غير محمية، لهذا أعتقد أن إيجاد مخارج جديدة لهذه المسألة أصبح أكثر إلحاحا، وذلك باعتماد تعويض جزافي عن الشيخوخة يحدد بناء على معيار السن بدلا من مدة التأمين، أو اعتماد معاش للشيخوخة جزافي لكل الحالات التي تقل عن مدة التأمين المطلوبة، وذلك في إطار سياسة اجتماعية تعتمد على مبدأ التضامن الاجتماعي، اعترافا بالخدمات التي قدمتها هذه الفئة للاقتصاد الوطني.