بقلم المقرر ذ بوطلحة امبارك قاضي بالمحكمة الابتدائية بالرباط نظمت محكمة الاستئناف بالرباط في إطار نشاطها الثقافي برسم سنة 2009 يوم 12-3-2009 ندوة حول موضوع: «واقع القضاء الاجتماعي بالمغرب بعد مرور خمس سنوات على دخول مدونة الشغل حيز التطبيق» بمقر المحكمة الابتدائية بالرماني، التابعة للدائرة الاستئنافية، حضرها الرئيس الأول لمحكمة الاستئناف والوكيل العام للملك بها ونقيب هيئة المحامين بالرباط والمسؤولون القضائيون ورؤساء الغرف والقضاة ورجال السلطة العمومية والحامين ورؤساء المصالح الإدارية والموظفين. وفي كلمته الافتتاحية أوضح رئيس الندوة ذ. سعيد بناني المدير العام للمعهد العالي للقضاء بالرباط، أنها تندرج في سياق مرور خمس سنوات على دخول مدونة الشغل حيز التطبيق التي تمت في سياق التوافق بين النقابات والأحزاب والدولة، ورغم أنها تشكل نصا متطورا إلا أنها أفرزت العديد من الإشكالات في المجال العملي، وهذه المناظرة فرصة لتدارس هذه المعيقات وإقتراح الحلول لها. وبعد ذلك أعطى الكلمة للأستاذة مليكة بنزاهير رئيسة غرفة بالمجلس الأعلى التي تناولت موضوع: «إنهاء عقد الشغل لأسباب إقتصادية وتكنولوجية»، موضحة أن مدونة الشغل غايتها الرفع من مستوى المقاولة المغربية في حلبة المنافسة مع المقاولات الأجنبية في إطار العولمة وأمام ذلك لابد من إعادة النظر في هيكلة المقاولة وطرق التشغيل وكيفية إنهاء العقد مع الأجراء بشكل يضمن حقوقهم، خاصة أن أسباب الإعفاء الكلي أو الجزئي تختلف عما كان سابقا، وأن المادة 66 من مدونة الشغل وسعت عدد الفئات التي تكون مشمولة بحماية هذا القانون في حالة الإعفاء لأسباب اقتصادية أو تكنولوجية أو هيكلية، وشملت أجراء القطاع الفلاحي والغابوي، كما تحدثت عن الإجراءات الشكلية الواجب اتباعها من طرف المشغل في حالة الإعفاء للأجراء والأجهزة المكلفة بدراسات الطلب واتخاذ القرار. وأوضحت المحاضرةأن الأسباب تتعلق بتحسين الإنتاج وإدخال آليات حديثة معلوماتية أو بسبب إغلاق بعض الفروع نتيجة الاستغناء عن الأجراء وأن الاجتهادات القضائية منها ما تعتبره فصلا تعسفيا مرتبطا بإرادة المشغل المنفردة دون موافقة الأجير، ومنها ما تعتبره حقا للمشغل في تعديل عقد العمل من أجل استمرارية المقاولة وإنقاذها عوض إغلاقها. الحرية النقابية وحق الإضراب: أما النقيب عبدالرحمان بن عمرو فتطرق في موضوع :»الحرية النقابية وحق الإضراب» إلى مفهوم الحرية النقابية، والتي تعد حق مجموعة من الأشخاص يتعاطون مهنة أو حرفة أو مهنا أو حرفا، يشبه بعضها بعضا، أو مرتبطة بعضها ببعض، في إنشاء نقابة من أجل الدفاع عن مصالحهم الاقتصادية والاجتماعية والمعنوية والمهنية الضرورية والجماعية للفئات التي تؤطرها وإلى دراسة وتنمية هذه المصالح وتساهم في التحضير للسياسة الوطنية وتستشار في جميع الخلافات والقضايا التي لها ارتباط بمجال تخصصها، كما تحدث عن المبادئ التي تقوم عليها الحرية النقابية والاختلافات الجوهرية بين النقابة والأحزاب السياسية والجمعيات والهيئات المنظمة بمقتضى نصوص خاصة (كهيئة الأطباء...). والإطار التشريعي الداخلي المنظم للحرية النقابية (المادتين الثالثة والتاسعة من الدستور والنصوص الدولية (المادة 23 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والمادة الثامنة من العهد الدولي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية). وتناول الأستاذ النقيب بنعمرومفهوم الإضراب القانوني ومصدر مشروعيته على مستوى النص الداخلي (المادة 14 من الدستور) والنص الدولي، والقيود الواردة على ممارسة حق الإضراب ، خاصة بالنسبة للموظفين، وهي تلك المنصوص عليها في المادة الخامسة من المرسوم الصادر في 5-2-1958 بشأن مباشرة الموظفين للحق النقابي والتي تخول للإدارة إمكانية معاقبة الموظفين بدون المرور عبر المجلس التأديبي للذين يتوقعون عن العمل بصفة مدبرة وجماعية، الأمر الذي يفيد منه تحريم ممارسة الإضراب تحت طائلة المساءلة التأديبية وقد طبقت العقوبة التأديبية على رجال التعليم بالمغرب مرة واحدة في تاريخ المغرب في أبريل سنة 1979، حيث تم التشطيب على المئات منهم من التوظيف من قبل الإدارة المغربية، وبعد ذلك أرجعوا إلى وظائفهم بعد مدة قصيرة، ويرى المحاضرأن المادة الخامسة من المرسوم المذكورة مخالفة للمادة 14 من الدستور ويستحسن إلغاؤها، وإلى حين القيام بذلك يجب تجميد أحكام المرسوم وعدم العمل به سواء من السلطة المدنية أو السلطة القضائية. ويبقى التساؤل الجوهري المطروح حول مدى أحقية المشغل في القطاع العام في الاقتطاع من راتبه بما يناسب يوم أو أيام الإضراب، فإذا كان إضراب الأجراء يمكن اقتطاع الأجر بخصوصه طبق الفصل 723 من قانون الالتزامات والعقود ما دام أن الأجر مقابل العمل الشيء الذي يعني أنه لا عمل لا أجر، ما عدا الحالات الخاصة والمنصوص عليها في القانون على وجه الحصر والتي ليس من بينها حالة الإضراب (كالرخصة السنوية). إلا أنه بالنسبة للموظفين العموميين فإن المادة الأولى من المرسوم المؤرخ في 10-5-2000 الخاص بتحديد شروط وكيفيات الاقتطاعات من رواتب موظفي وأعوان الدولة والجماعات المحلية المتغيبين عن العمل بصفة غير مشروعة، فهذه المادة تنص على ما يلي: «تخضع رواتب موظفي وأعوان الدولة والجماعات المحلية، الذين يثبت غيابهم عن العمل بدون ترخيص أو مبرر مقبول للاقتطاع باستثناء التعويضات العائلية»الشيء الذي يعني بمفهوم المخالفة أن التغيب المرخص به والمبرر والمقبول لايسمح بالاقتطاع من الراتب، وبما أن الإضراب حق دستوري مشروع فإن تغيب الموظف بسبب ممارسته لهذا الحق يعتبر تغيبا مبررا من الناحية القانونية، وبالتالي لايسمح بسببه بالاقتطاع من رواتب الموظفين المضربين عن العمل. تصدع في الآليات و خلط في مصادر في القانون من جهة الأستاذ الجامعي بالرباط رشيد الفيلالي المكناسي أوضح أن مدونة الشغل خرجت إلى حيز الوجود بعد 20 سنة، وكانت متناسقة مع المرجعية التي قدمتها المدونة، وأن القضاء حاول تبادل الرؤى بخصوصها، ووضع الدليل لقراءتها، في إطار منظور متفتح يشجع على الاستثمار والتشغيل، لإقرار السلم الاجتماعي وتحقيق التنمية الاقتصادية، وذلك لسد الثغرات وتأهيل القضاة للتعامل بشكل موحد ونسق رصين، وأن النص الجديد أظهر عدة هفوات أبانت أن واضعي المدونة لم يتمكنوا من الإلمام بالنظريات القانونية ذات الصلة بقطاع الشغل، بل وضعوا قواعد للوصول إلى الغاية التي أرادوا ونتج عن ذلك تصدع في الآليات التي أوجدوا، فهناك خلط في مصادر في القانون، فديباجة المدونة تنص على أنه : «في حالة تنازع القوانين تعطى الأولوية في تطبيق للمقتضيات القانونية الأكثر فائدة للأجراء، وعلى ضوء ذلك تساءل هل تسمو الاتفاقية الدولية في تطبيق على القانون الداخلي إذا تضمنت حقوق أكثر فائدة للأجير؟. كما لاحظ وجود ارتباك في مجال التعريف، وأن هناك عدم تلائم المدونة مع الأنظمة المقارنة في مجال التأديب، إذ المشرع حول لرئيس المقاولة سلطة التأديب ووضع قواعد، لضبط سير المنشأة، حيث إن المادة 21 توجب امتثال الأجير لأوامر المشغل، وألزم المشغل بالتدرج في العقوبات بمقتضى المادة 38، إلا أنه منح للمشغل سلطة ملائمة العقوبة في توصيف أو تكييف خطأ الأجير أنه جسيم، وهذا يحمل في طياته تناقض مع مرجعية السلطة التأديبية وأحكامها المتوافقة مع المعايير الدولية، واقترح المحاضر بالمقابل أن يتولى القضاء إمكانية مراجعة العقوبات التي يتخذها وإخضاعها لقواعد العدل والإنصاف تبعا لظروف القضية. مسطرة الفصل التأديبي والإجراءات الجوهرية: وتناولت ذة رشيدة احفوظ رئيسة غرفة بمحكمة الاستئناف بالدارالبيضاء بالدرس والتحليل مسطرة الفصل التأديبي والإجراءات الجوهرية التي تضمنها ولاسيما : 1- تمكين الأجير من الدفاع عن نفسه بحضور مندوب الأجراء داخل 8 أيام من تاريخ ارتكاب الفعل المنسوب إليه. 2- تحرير محضر الاستماع وتسليم نسخة للأجير داخل 48 ساعة من اتخاذ وتوجيه نسخة إلى مفتش الشغل. 3- تضمين مقرر الفصل الأسباب المبررة له. وتطرقت المحاضرة للإشكال المرتبط بذلك فيما إذا كانت مسطرة الاستماع إلزامية للمشغل ولو ارتكب الأجير خطأ جسيم أو غادر العمل طوعا، وتباين العمل بخصوص ذلك، وهل المسطرة المذكورة تشمل حالات العقد محدد المدة؟ كما بينت أوجه الاستشكال حول مدى ضرورية احترام الآجال المنصوص عليها في مسطرة الإستماع والأثر القانوني الذي ينتج عن الإخلال بذلك وتعامل قضاء الموضوع والمجلس الأعلى، وحدود صلاحية المحكمة في مناقشة أسباب الفصل دون بحث باقي الأسباب التي قد يعرضها أثناء نظر المحكمة في الدعوى؟. وأنهت الأستاذة احفوظ عرضها بتساؤل أساسي بخصوص محضر الصلح إذا لم يكن مستوفي الشروط المتطلبة قانونا هل يكون ملزم للطرفين أم لا؟ وكذلك الأمر بخصوص الاستقالة إذا لم تتوفر على إحدى شروطها هل للمحكمة الحكم بإبطالها ومنح الأجير التعويضات القانونية؟. المغادرة التلقائية: ومباشرة بعد ذلك تحدث الأستاذ الجامعي بمكناسة عبدالعزيز العتيقي عن المغادرة التلقائية التي هي من ابتداع القضاء المغربي وقننتها المدونة الجديدة، إذ نصت في المادة 63 على أنه :»يقع على المشغل عبء إثبات وجود مبرر مقبول للفصل، كما يقع عليه عبء الإثبات عندما يدعي مغادرة الأجير لشغله، مشيرا أن المغادرة ليست تغيبا مبررا ما دام أن المشرع لم يدرجها ضمن حالات التغيب المبررة، ويكون بذلك التغيب غير مبرر خطأ جسيم لأكثر من أربعة أيام أو ثمانية أنصاف يوم خلال الاثني عشر شهرا. وعالج نقطة مهمة فيما إذا كانت المغادرة تغييب غير مبرر تستوجب تطبيق مسطرة الاستماع وفق أحكام المواد 62 و 63 و64 من مدونة الشغل، مشيرا أن المشرع المغربي لم يعتبر المغادرة التلقائية خطأ جسيم، حيث لم يتم التنصيص عليها ضمن الأخطاء الجسيمة التي ذكر في المادة 39، موجها سؤالا حوهريا للحاضرين هل يمكن القول أن الاستقالة التي لم تتوفر على إحدى الشروط القانونية تعد مغادرة تلقائية؟ عقد الشغل المبرم مع طرف أجنبي: استعرض ذ.عبداللطيف وهبي المحامي بهية الرباط من جانبه الإشكالات القانونية المرتبطة بموضوع عقد الشغل المبرم مع طرف أجنبي، وتزايد هذه العقود في ظل إقبال المستثمرين على المغرب وتواجد يد عاملة أجنبية به، مبرزا أن هذه العقود لا تعد صحيحة ولا قانونية إلا بعد التأشير عليها من طرف وزارة التشغيل، مبديا رأيه بخصوص الحالة التي لا يتم فيها التأشير على عقد العمل، منوها بالاجتهاد القضائي في معالجة الموضوع، فقد استقر على أن الوجود القانوني يتم من التأشير على العقد ويعد باطلا دون ذلك، على أن القضاء المغربي في أسمى مراتبه وبقول واحد، شكل إجماعا أن الأجير يستحق الأجر مقابل العمل، ولايستفيد من التعويضات القانونية، ما لم توجد مقتضيات خاصة كما هو الحال في الاتفاقية المبرمة مع الجزائر. كما لامس المحاضر فرضية جديرة بالدراسة تتعلق بأثر العلاقة التبعية بين الأجير والمشغل على الخطأ التقصيري والمسؤولية المدنية لخطأ الأجير الأجنبي، وكيف سيتعامل رجال القضاء مع ذلك في النوازل التي قد تقع. مناقشات: وبعد ذلك فتح رئيس الجلسة باب المناقشة، وتدخل ذ طيب لزرق المحامي بالرباط وأشار أن الاجتهاد في مجال الشغل خصب والمجلس الأعلى ومحاكم الموضوع راكمت في العديد من أحكامها رؤية جيدة وفهم سليم للنصوص وحل للإشكالات العملية، والتي لم يتم تأطيرها تشريعيا، وأن هناك تواصل بين العمل القضائي والتشريع، فكل اجتهاد رسخ وصار متواترا دون تأرجح تحول إلى نص تشريعي، موضحا أن مسطرة الاستماع إلى الأجير إلزامية لكونها مقررة لفائدة العدالة ومن خلالها ترى المحكمة الحقيقة وتضع يدها على محجة العدل. أما ذة لطيفة البدوي المحامية بهيئة الرباط فطالبت بإلغاء الفصل 5 من مرسوم 5-2-1958 لكونه يمس حقوق المواطن من جراء إضراب الموظف الذي يؤثر سلبا على سير المرفق العمومي وتعطل مصالح المواطنين وأنه يمكن استحداث أساليب للدفاع عن مصالح الموظف دون اللجوء إلى الإضراب على غرار بعض الدول كاليابان. وتساءل ذ سيمو مصطفى رئيس المحكمة الابتدائية بالرماني في تدخله هل النظام الذي استحدثته مدونة الشغل في احتساب التعويض عن الطرد التعسفي، بالاستغناء عن سلطة القاضي الاجتماعي في تقدير التعويض المناسب، حقق التوازن العقدي بين الأجير والمؤاجر؟ وهل مصادرة المشرع للسلطة التقديرية خلق إجحافا في تقدير التعويض للأجير، مبينا أن الإحصائيات الرسمية المتوفرة لدى وزارة العدل (مديرية الدراسات والتعاون والتحديث) توضح أن عدد قضايا نزاعات الشغل سنة 2003 بلغت 29986 بنسبة 4.46% من مجموع القضايا المدنية و بينما سنة 2008 بلغت 27308 بنسبة 2.35% من مجموع القضايا المدنية، طالبا من المحاضرين إبداء رأيهم وقراءة متمعنة لهذه المعطيات، وما إذا كانت تشكل مؤشرا إيجابيا في التعاطي لموضوع الشغل من كافة المكونات والأجهزة، لاسيما خلق القاعدة التشريعية والتطبيق السليم لها من طرف القاضي الاجتماعي؟. واستفسر ذ.عبدالصمد الواهلية القاضي بالمحكمة الابتدائية بالرماني عن الجزاء القانوني عن عدم إجراء مسطرة الصلح في نزاعات الشغل؟ وهل تعداد الأخطاء الجسيمة بالمدونة على سبيل الحصر أم المثال؟ وحدود سلطة المحكمة في تقدير الخطأ المتمسك به من طرف رئيس المقاولة هل هو جسيم أم لا؟ وهل حق الإضراب مطلق وغير مقيد في القطاع العام؟. وبعد مناقشات مستفيضة وردود موضوعية بين المتدخلين والمشاركين، في جو علمي هادئ، تلاقحت المعلومات وتواصلت الأفكار علىرؤية عميقة وتأويل محكم لنصوص المدونة مستحضرين المعايير الدولية ذات الصلة، فكانت هذه الندوة مرتع فكري لاستخلاص المقاصد المرجوة و المعبرة عن إرادة المشرع الحقيقية والمفترضة، وتوافق المشاركون في هذا الحفل العلمي على العديد من توصيات القيمة، كما توافق منذ زمن الشركاء الاجتماعيين على صياغة هذه المدونة كإطار تشريعي لضبط علاقات الشغل التعاونية لتحقيق الازدهار والعمران.