عام ثقيل، ثقيل، أتمنى أن يخرج على خير، كما كان يقول شيخي المؤرخ محمد أحمد بن إياس حنفي المصري، في نهاية كل عام ومطلع الآخر، لابد أن يردد هذه العبارة «وفيه خرجت السنة على خير ..» رغم كل ما جرى فيها، هذا العام - كان مثقلا بالموت، ما أن نفيق من رحيل حبيب حتى نفاجأ بالآخر، صلاح حافظ، كامل زهيري، وها هو الحاج محمد مدبولي، في مواجهة هذا الرحيل المفجع يأخذني البهت رغم أنني متعايش الآن مع فكرة الرحيل الأبدي، متقبل لها، غير هياب منها، بل إنني أمر بين الصحو والنوم بما يشبه تجارب تمهد للاجتياز، ما أصعب الرثاء إذا شعر الإنسان أنه قريب من الموقف ذاته، غير أن رحيل الحاج محمد يخرجني عن بهتي وينهي دهشتي التي ألجمتني طوال الفترة الماضية، ليس لأنه الأعز من السابقين، ولكن لتعدد مستويات الصلة به، وللدور الاستثنائي النادر، الذي قام به، اسم الحاج محمد علامة كبرى مثل العلامات التي لا يمكن قياس قيمتها بالمال، هذه العلامة تجسدت بفضل عبقرية هذا الإنسان المصري، البسيط، الذي ظل كما عرفته منذ حوالي نصف قرن، يرتدي نفس الجلباب وغطاء الرأس الصعيدي، لم يتخل عن كل مظاهر أصالته، بل أصبح جلبابه رمزا، يسافر به إلى عواصم الدنيا مجتمعة ومتفرقة، يكفي ظهوره، يكفي القول انه الحاج مدبولي، عرفته بائعا للصحف، مجرد فرشة في ميدان طلعت حرب ورثها عن والده الذي جاء من الصعيد في الأربعينات، ثم أصبح صاحب كشك، كان مطليا بلونين، أخضر وأصفر، لم يكن كشكا عاديا للصحف، إنما كان يقدم الكتب لمثقفي القاهرة، كان نقطة وصل بينهم وبين دور النشر العربية، خاصة لبنان، وسرعان ما أصبح نقطة توزيع مهمة، يجد فيها المثقفون أيا كانت أهواؤهم أو اهتماماتهم، كافة ما يبحثون عنه، كان الكشك أشبه بندوة ثقافية على مدار الساعات الأربع والعشرين، حيث يلتقي الكل بالكل، وخلال تقليب الصفحات تجرى الحوارات والمناقشات، كان الحاج ذا ذاكرة مدهشة، لا تسأله عن عنوان إلا واستخرج من ذاكرته العجيبة كل ما يتعلق به، وإذا لم يكن متوافرا قد يفاجأ السائل بعد سنوات بالحاج يخبره بتوفير العنوان الذي سأل عنه، اكتسب ثقة الناشرين جميعا حتى أصبحوا لا يفضلون التعامل إلا معه، وبعد انتظام معرض القاهرة الدولي للكتاب صاروا يتركون لديه ما تبقى من كتبهم، لا عقد ولا ورقة، فقط كلمة الشرف، كلمته ثقة، لم أره في حياتي يحرر شيكا، كان الجيب العميق للجلباب خزينته عامرة، وكان رغم تعليمه البسيط يقوم بأعقد الصفقات ولا يكتب ورقة، قبل أن يفتتح مكتبته الشهيرة في الميدان كان قد دخل سوق النشر مبكرا، منذ بداية الستينات، لم يعد موزعا فقط، إنما ناشرا هاما، بل من أهم مراكز النشر، وكان لديه قدرة عجيبة على استنتاج الاتجاهات التي ستحقق رواجا، جاء ذلك من وقوفه حوالي ثماني عشرة ساعة يوميا، يصغي إلى هذا ويناقش ذلك، أحيانا يصله كتاب ما ينظر إليه، يقول ما يشبه حكما: «دا حيمشي» أو «دامش حيمشي» ، نشر أعمالا تخشى الهيئات الثقافية على إنتاجها رغم كل ما لديها من إمكانيات، يكفي أن أذكر سلسلة تاريخ مصر، والموسوعات عن العمارة الإسلامية والفرعونية، والقواميس، ومنها القاموس الفارسي العربي الذي وضعه المرحوم إبراهيم الدسوقي شتا وهو فريد في المكتبة العربية، تخطت شهرته العالم العربي إلى أوروبا وأمريكا، وكان وكيلا لمؤسسات علمية مرموقة، منها جامعة بريل ودار نشرها العريقة في هولندا، كذلك أكسفورد . يمكن القول إنه مارس التأليف، كان يقع اختياره على أحد المهتمين المتخصصين، ويطلب منه أن يضع له كتابا عن «القبلة في الأدب العربي» أو «أشعار النساء», عشرات الكتب كان هو صاحب فكرتها، وكان لديه موقف سياسي واضح، فلم ينشر كتابا ضد الزعيم جمال عبد الناصر، وكان يكن له حبا خاصا، في مكتبته رأيت أشهر من في العالم العربي من مختلف المجالات، ولن أنسى لقائي باللواء محمد نجيب في الثمانينات، كان يحمل قصاصة ورق متهرئة تحمل عناوين كتب يبحث عنها، وعندما تقدمت منه لأحييه، سألني: هل تعرفني يا بني؟ فقلت مبتسما مرحبا، ومن لا يعرف أول رئيس جمهورية لمصر؟ أوتي الحاج وعيا مدهشا، في ذروة توتر العلاقات بالبلدان العربية والإسلامية لم يتوقف عن المشاركة في معارض الكتب، هكذا كان يطير بجلبابه سنويا إلى طهران وإلى الخرطوم، إلى كل فج، كان يقول لي ببساطة: الثقافة حاجة ثانية، كانت كلماته قليلة، لكنها دالة، كان دورا ثقافيا عظيما، ومؤسسة تجاوزت كل المؤسسات العاملة في مجال الثقافة، وكل منا مدين له بدرجة ما، وما أتمناه أن تستمر مكتبته بنفس الزخم، والبركة في الرجال الذين عملوا معه، أبناؤه الفعليون أو الروحيون، إن مدبولي لم يكن موزعا ولا ناشرا، بل كان رمزا ودورا.. رحمه الله.