كيف يمكنك أن تميز المغاربة عن باقي الأجناس الأخرى في الحج. ليس هناك أسهل من ذلك. يكفي أن تبحث عن جماعة تائهة من الحجاج تخلى عنهم مرافقوهم الذين أرسلتهم معهم وزارة أوقافهم وشؤونهم الإسلامية. ففي كل موسم حج يتكرر الفيلم ذاته، حجاج مغاربة يضطرون لطلب «اللجوء الديني» في حافلات الحجاج الفلبينيين والباكستانيين والمصريين بسبب غياب الحافلات التي ستقلهم إلى عرفات. وحجاج آخرون «تالفين» في منى بسبب غياب الحافلات التي ستقلهم إلى مكة قبل غروب الشمس حتى لا يذهب حجهم سدى. هذه السنة وقعت المهزلة نفسها بالنسبة للحجاج المغاربة المسجلين ضمن بعثة وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية. وعوض أن يقف الحجاج المغاربة بجبل عرفات وجدوا أنفسهم مضطرين لتنظيم وقفة احتجاجية بمخيم منى، وشرعوا يكبرون جماعة احتجاجا على الإهمال الذي تعرضوا له من طرف مبعوثي وزارة الأوقاف. فحاصرتهم قوات الأمن السعودية، ولولا الألطاف الإلهية لعادوا إلى المغرب برؤوس «مبرققة» من الضرب وليس برؤوس حليقة ككل الحجاج. فقوات الأمن السعودية لديها قواسم مشتركة كثيرة مع قوات أمننا المغربي. والغريب في ما يقع لحجاج وزارة الأوقاف المغربية كل سنة في بيت الله الحرام، هو أن حجاج الدرجة الأولى الذين ترسلهم الدولة على حساب أموال دافعي الضرائب لا يعانون من غياب الحافلات التي تقلهم لأداء مناسك الحج كاملة، ولا من مشاكل الإقامة ولا من مشاكل التغذية والتطبيب. فكل هذه الخدمات مضمونة من فئة خمس نجوم. ولعل توفيق حجيرة وزير التعمير الذي ترأس الوفد الرسمي للحج هذه السنة، يستطيع أن يفيدكم أحسن مني في هذا الباب. فمن يحج «بيليكي» على حساب الشعب ليس كمن يتقشف طيلة حياته لكي يوفر مصاريف حجه من عرق جبينه. والمخجل في الأمر هو أن نرى كيف أن المغاربة مكتوب عليهم، من دون عباد الله جميعا، أن يحتجوا ويصرخوا بالشعارات بسبب الإهمال حتى في بيت الله الحرام. وعندما تأملت في الموضوع قليلا وجدت أننا نحن المغاربة نشكل حالة استثناء بين سائر الشعوب الأخرى. وسأعطيكم بعض الأمثلة لكي تفهموا أننا، من دون عباد الله، نعاني مع الإدارات والمؤسسات المفروض فيها قضاء شؤوننا وتسهيل أمورنا، وأننا الوحيدون في العالم الذين نحتج في أماكن لم يسبقنا أحد للاحتجاج بها. عندما نستفسر عن أسباب هذه الوقفة نتفهم ما قام به هؤلاء الحجاج المغاربة. فكل سنة يضيع حج الكثير منهم سدى بسبب غياب الحافلات التي ستقلهم لأداء إحدى أهم الشعائر وهي الوقوف بعرفة، وبعدها مغادرة مكة قبل غروب الشمس. وهكذا يجد العديد من الحجاج أنفسهم مضطرين للمشي تحت شمس تصل درجة حرارتها إلى 46 درجة، وكثير منهم يتوقف منذ الكيلومتر الثاني. والمصيبة أن هؤلاء الحجاج المغاربة المساكين يرون كيف أن حجاجا قادمين من دول صغيرة جدا ومجهولة ولا تحتفل مثل المغرب بمرور 1200 سنة على تأسيسها، تخصص لهم دولهم حافلات منضبطة التوقيت ومرافقين يلتصقون بهم كظلالهم. فيشعر حجاجنا بالخجل من مغربيتهم، ويتمنون لو أنهم حجوا مع جزر القمر أو الواق واق عوض الحج مع وزارة الأوقاف المغربية. فهل سمعتم بحجاج آخرين غير الحجاج المغاربة نظموا وقفة احتجاجية في منى بسبب غياب حافلات النقل. مع الأسف هذا لا يحدث سوى للحجاج المغاربة. أما الجالية المغربية المقيمة بالخارج، فأصبحت هي الأخرى تحتج أمام أبواب القنصليات المغربية. وآخر وقفة احتجاجية كانت تلك التي نظمتها الجالية المغربية أمام سفارة المغرب بالدانمارك احتجاجا على ما أسموه الفساد الأخلاقي وتفشي الرشوة وسط موظفي السفارة. ووجه المحتجون أصابع الاتهام إلى المستشار المكلف بالشؤون القنصلية الذي اتهموه بالتحرش بالنساء اللواتي يفدن على القنصلية لقضاء مصالحهن الإدارية. ويبدو أننا الشعب الوحيد الذي تحتج جاليته أمام أبواب سفاراتها بالخارج احتجاجا على التحرش الجنسي والرشوة. كما أننا الشعب الوحيد الذي لديه قنصليات في الخارج تفعل كل ما بوسعها لتعقيد أمور جاليتها واستنزاف جيوبهم بمصاريف الطوابع البريدية وأثمان تجديد الوثائق المرتفعة. وعوض أن تعمل وزارة الخارجية المستحيل لإرضاء هذه الجالية التي يصل تعدادها إلى ثلاثة ملايين مهاجر، والتي بفضل تحويلاتها السنوية من العملة الصعبة لازال المغرب واقفا على رجليه، فإن كل ما تقوم به هو إحصاء مداخيلها الشهرية من عائدات «التنابر» التي تبيعها قنصلياتها عبر العالم. وفي كل مدن العالم حيث توجد قنصليات المغرب لن تعثر على واحدة «تحمر» الوجه للمغاربة في بلدان إقامتهم. فكلها نسخ رديئة لمقاطعات مغربية متسخة، بدون كراسي انتظار ولا مكيفات هواء، أما المراحيض فيغلقونها بالقفل، ولولا أنهم لعنوا الشيطان لكانوا عينوا على باب كل مرحاض امرأة تضع أمامها «رولو» من الكاغيط تبيعه بالتقسيط للراغبين في قضاء الحاجة بالقنصلية. قضاء الحاجة «اللي على بالكم» طبعا، لأن الحاجة الأخرى يتطلب قضاؤها ثمنا تحدده كل سفارة بحسب مزاج موظفيها. ومن بين الألغاز الغامضة التي لم أفلح أبدا في حلها هي لماذا قنصليات المغرب في الخارج وحدها من بين كل قنصليات الدول الأخرى تصر على إعطاء هذه الصورة المشوهة عنا للعالم. مع أن مداخيلها اليومية من «التنبر» تستطيع أن تحولها إلى تحف معمارية تعطي للبلدان التي تستضيفها صورة جميلة عن البلد الذي يحتفل بمرور 1200 سنة على تأسيسه. فهل رأيتم جالية أخرى في العالم غير الجالية المغربية تشكو من قنصليات بلدها. إن هذا لا يحدث سوى للجالية المغربية. إن السبب حسب فهمي المتواضع لكل هذه المعاملة غير اللائقة للمغاربة في الخارج، سواء كانوا مقيمين أو حجاجا عابرين، تلخصها كلمة واحدة وهي «الحكرة». فالمغاربة «محكورون» أينما كانوا، سواء داخل الوطن أو خارجه. ومن يعيش بعيدا عن أجمل بلد في العالم تتكفل مصالح وزارة الخارجية بإيصال نصيبه من «الحكرة» حتى باب إقامته بالبريد المضمون، مع إشعار بالتوصل. وفي كل بلدان العالم التي شهدت حروبا من أجل استرجاع سيادتها على أراضيها، تقوم الدولة بتشييد نصب تذكاري للشهداء الذين سقطوا دفاعا عن الوطن، بينما تتكفل بضمان عيشة كريمة للأبطال الذين شاركوا في الحرب وخرجوا منها أحياء، أو الذين عادوا من الأسر بعد سنوات طويلة من العذاب. إلا عندنا في المغرب. فشهداء حرب الصحراء لا يتذكر نساءهم وأبناءهم أحد، وأغلبهن يتقاضين معاشا مخجلا ومهينا عن أزواجهن الشهداء لا يتعدى ألف درهم. أما الجنود الأسرى الذين قضوا سنوات طويلة من التعذيب في معتقلات العدو، فكل ما قدمه لهم وطنهم مقابل مخاطرتهم بأرواحهم من أجله هو استقبالهم في مطار أكادير ببرود بعد أن وزعت عليهم الجزائر «تونيات» رياضية، وجمعهم وتفريقهم على ملاعب كرة القدم بانتظار إيجاد مأوى لهم. وفي الأخير عوض أن يعيشوا ما تبقى لهم من سنوات بكرامة في وطنهم أصبحوا مضطرين للوقوف أمام البرلمان والاحتجاج ضد «الحكرة». وعندما راسل أحد الكولونيلات الملك بخصوص وضعية هؤلاء الأسرى السابقين توبع أمام القضاء بتهمة الكشف عن أسرار عسكرية وإلحاق الضرر بمنشئات عسكرية، وحكم عليه مؤخرا باثنتي عشرة سنة سجنا، دون احترام لسنواته السبعين. وفي الوقت الذي سينتقل هذا الكولونيل ليسكن في السجن لبقية عمره، يضع أحد المسؤولين العسكريين الكبار المشرفين على صفقات اقتناء الأسلحة اللمسات الأخيرة على قصره الفخم الذي شيده أمام أنف مقر مركز المخابرات العسكرية، حيث يشتغل رجال المخابرات الذين لا يبدو أن علامات الثراء هذه التي ظهرت على المسؤول العسكري تزعجهم في شيء. فهل رأيتم دولة واحدة في العالم يخرج جنودها السابقون الذين تقاتلوا من أجلها ووقعوا في الأسر لسنوات طويلة إلى الشارع للمطالبة بتوفير العلاج والسكن لهم. وهل سمعتم بزوجة شهيد تتقاضى عن زوجها ألف درهم في الشهر. هذا لا يحدث سوى للشهداء والأسرى المغاربة. عندما نتأمل هذا «الاستثناء المغربي» نخرج بخلاصة واضحة وهي أن كل شيء في المغرب، بما في ذلك حقوقك البسيطة، يجب أن تناضل من أجل الحصول عليها. كان على سيدي إفني أن تخرج عن بكرة أبيها إلى الشارع لكي تجتمع الحكومة وتضع برنامجا لتنمية المدينة. كان على أبناء صفرو أن يحرقوا الإطارات ومقرات الأمن لكي تفهم الدولة أن هناك مشكلا عميقا في المدينة. عندما تظهر ترقية رجال الأمن نسمع عن احتجاجهم هنا وهناك عوض ابتهاجهم، وعندما تنزل تعيينات الطبيبات المتخصصات يشعرن بالغبن ويشرعن في الاحتجاج أمام الوزارة عوض الإحساس بالسعادة والالتحاق بمقرات عملهن. وبسبب هذا «الاستثناء المغربي» أصبح على كل من يريد حقه أن يجمع حوله جماعة ويشتري بوقا وبضعة أمتار من الثوب يكتب فوقها مطالبه ويأتي إلى الرباط ليحتج ويصرخ. سيسلخون بعضهم ويرسلون بعضهم إلى السجن، وفي الأخير سيجلسون مع الباقين ليتفاوضوا معهم حول مطالبهم. عوض أن يقوموا بواجبهم من الأول ويعفوا الناس ويعفوا أنفسهم من كل هذا الصداع. هكذا علمونا وهكذا يريدوننا إلى الأبد.