عبد القادر الفاسي الفهري اللسان العربي رسمي في 22 دولة عربية وفي 3 دول غير عربية (هي إسرائيل وإريتريا وتشاد)، وهو رسمي في المنظمات الدولية (مثل منظمة الأممالمتحدة واليونسكو ومنظمة التجارة العالمية، إلخ)؛ وهو لسان ما يزيد على 350 مليون متكلم في الأرض العربية، وأزيد من مائة مليون فطري وغير فطري في القارات المختلفة؛ وهناك إقبال على تعلمه في الصين وأمريكا وتركيا وإيران،... إلخ؛ فعدد متكلميه في صعود متزايد، مما يرشحه لأن يصبح لغة عملاقة في مستوى المجرة اللغوية العالمية، بين اللغات الخمس الأكثر استعمالا في العالم، حسب التقارير الاستراتيجية الجيو-لسانية الأكثر جدية، مثل تقرير كرادول (1997)؛ فوضعه اللساني-الديمغرافي ووضع انتشاره عبر البلدان يعززه انتشاره فائق السرعة على الشابكة والأنترنيت (حيث انتقل من مليوني مستعمل في 2001 إلى حوالي 65 مليون الآن)، وقد تم تعريب twitter وويكيبديا، وتطويع المحتوى العربي في الأنترنيت (حوالي 3 في المائة الآن)، وترجمة كمية لا بأس بها من الكتب الفلسفية والعلمية إلى العربية، وتعريب العلوم الإنسانية والاجتماعية في الجامعات العربية، وتعريب الطب في بعض الجامعات أو في المنظمة العالمية للصحة،... إلخ. 3 - السجل اللغوي والعدالة هذا الرأسمال اللغوي والتواصلي العربي الغني والذي هو جزء لا يتجزأ مما يمكن أن يسمى بالذخيرة اللغوية والثقافية للمواطن المغربي، أو سجله اللغوي-الثقافي الذي ساهم المغاربة بصفة نشيطة في تكوينه عبر مراحل متعددة ومختلفة في التاريخ، علاوة على الموروث المازيغي الهام (الفائق التنوع كذلك)، والرصيد الأندلسي والإفريقي والمتوسطي والحساني،... إلخ. ومن المفترض أن تنطبق مبادئ القانون والعدالة اللغوية على هذا الرصيد الغني والمتنوع، وفي مقدمتها مبدأ المساواة في الكرامة ومبدأ عدم الحرمان اللغوي؛ فمبدأ الكرامة المتساوية يقضي بأن توفر أي خدمة للمواطن المغربي الناطق باللغة العربية بهذه اللغة، لا بلغة أجنبية، مثلا. ونفس المبدأ يصدق على المواطن المغربي الذي يريد أن تقدم إليه الخدمة بالمازيغية. ووضع رسمية الاستغراق (المنصوص عليه في الدستور) قد يوظف في تحديد أي من اللغتين الرسميتين يمكن استعمالها إذا كان المواطن يتكلمهما معا، أي أنهما توجدان معا ضمن سجله اللغوي. وقد يكون الأمر لصالح اختيار المازيغية في توفير الخدمة إذا كان المواطن لا يتكلم إلا بها، طبقا لمبدأ الكرامة المتساوية ومبدأ عدم الحرمان اللغوي. وأما إذا كان المواطن يتكلم اللغتين معا، وكان مبدأ الترابية ينطبق عليهما معا، فإن المتكلم يمكن أن يختار أي لغة يريد الخدمة بها. وأما بالنسبة إلى النوع اللهجي أو المعياري الموظف في الخدمة، فإن الأمر ينبغي أن يكون متروكا إلى ما هو أيسر في الخدمة، مع أولوية وضع الرسمية، وكذلك عدم الحرمان. 4 - اقتصاد اللغات والتنمية والسياسة اللغوية والتقييم لا نقاش في أن اللغات (بتنوعها) هي أحد مصادر التنمية البشرية للمواطنين الأساسية، بحيث لا نمو معرفي/ثقافي بدون لغة مبيئة، تحمل وتنقل المعارف، إلخ، في بيئتها وعلى أرضها وبين متكلميها. ونرفض أي مقاربة تروم إفقار الرصيد الوطني للغات (التي نعدها خيرات عمومية لا يمكن العبث بها)، كما نرفض الإقصاء والاستيعاب الذوباني (إلا لمن أراد ذلك) والعنف اللغوي بكل أشكاله. ومن دور المجلس الوطني للغات والثقافات أن يحدد (مع الشركاء) التوازنات الممكنة بين اللغات. ويوجد في الطابق السفلي لهذا التوازن دعم الفرص المتساوية للمواطنين المرتبطة باللغات، على مستوى وطني وجهوي ودولي، مما يتطلب موقعة هذه اللغات بصفة مناسبة في أسواق لغات التواصل والتبادل، بالربح والمنفعة. وبما أن فرص المواطنين لا ترتبط بلغاتهم الوطنية وحسب، بل باللغات الأخرى وبهويتهم الكونية، فإن سياسة تعددية للغات تبدو حتمية، لتمكين المواطنين من تعلم واستعمال لغات أجنبية، وخاصة اللغة أو اللغات الحرة العالمية الأكثر استعمالا عبر العالم lingua franca، في العلم والتكنولوجيا والتواصل والإبداع الثقافي،... إلخ. وإذا كانت الإنجليزية قد فرضت نفسها كلغة تبادل عالمية بامتياز، ومكنت متكلميها الأصليين من جني أرباح لغوية تقدر بمليارات الدولارات، علاوة على الأرباح الرمزية، فإن تعزيز مكانة اللغة العربية دوليا يدخل ضمن تعزيز اختيار التنوع عالميا، من جهة، وهي مصدر مرتقب وطبيعي لأرباح لغوية (مادية ورمزية) لا بد أن يجنيها المواطن المغربي، لأنه استثمر فيها تاريخيا، وهي من رصيده. وفي اتجاه آخر، فإن الفرانكفونية يمكن، في شراكة ندية مع العربفونية، أن تدعم في إطار دعم التنوع العالمي للغات والثقافات. إذن، لا بد من إقامة توازن بين ما يمكن أن يسمى المواطنة اللغوية الوطنية، التي ترتبط بلغة الأرض والبيئة والوطن، وبين المواطنة الكونية «الكوسمية»، التي لا ترتبط بأرض معينة، ولا بحدود. 5 - التعددية اللغوية والتعددية الثقافية بيَّنا أن ما هو مطروح في هذا البرنامج يعتمد مفهوم «سجل الهويات»، وهو بالضرورة متعدد. وفي هذا التصور، تكون هوية المواطن تعددية، وليست هوية أحادية. ينبغي، إذن، البحث عن «العموميات» في مجال الهوية، دون الاقتصار على «الخصوصيات» والفُرَادَات. إن الهوية التعددية (بمُتَبِّلاتها العامة والخاصة) تحمل بذور التعايش والتسامح والاعتراف المتبادل، وليس الانكفاء أو التعليب (الانغلاق في علبة) أو الفئوية-القبلية، وكلها توابل تغذي النزاعات وتنفي الآخر وتشجع العنف والجريمة التي تقترن بكثير من الفرادات المفرطة. وكما بين أمرتبا سين، العالم الاقتصادي-الاجتماعي الهندي، في كتابه عن الهوية والعنف، فإن الحديث عن الهوية لا يأخذ معناه الفاعل إلا حين نقر أن (أ) الهويات متعددة بصفة أساسية، و(ب) إن أهمية هوية ما لا يمكن أن تنفي أهمية الهويات الأخرى، و(ج) على المرء أن يختار درجة الأهمية النسبية التي يوليها، في سياق معين، للانتماءات والأولويات المختلفة التي قد تتنافس أو تتنافى. ومعلوم أن الانتساب إلى الآخرين، بكيفية متنوعة، مهم جدا للعيش داخل المجتمع، أو كما يقول جون دون: «ليس أي إنسان جزيرة تامة منغلقة على نفسها»، يمكن أن يتجاهل هوية الآخرين؛ فالإنسان ينتمي إلى جماعات متعددة بالضرورة، خلافا لما يتمناه الفئويون المنغلقون أو منظرو السياسات الثقافية-التعليمية أو الهويات الضيقة. إنهم يريدون تقسيم شعوب العالم حسب مقولات حضارية أو ثقافية تقييدية أو تعليبهم في صناديق خاصة. إنه سلاح النشطاء الطائفيين الذين يَعْمَون عن النظر إلى الروابط والانتماءات المتعددة التي قد تخفف من ولاءاتهم للعشيرة المُعَلَّبة؛ فهذه النزعة إلى التعامي عن الانتماءات والولاءات الأخرى التي تضيق بها الهوية الوحيدة الانغلاقية جزء من أوهام النشطاء، وهي تذكي التوتر وتغذي العنف. ويذهب أمين معلوف، في نفس الاتجاه، إلى أن هذه الهوية المُقَلَّصَة «هوية قاتلة»، لأنها هوية بانتماء واحد، تجعل الناس يتخذون مواقف متحيزة وطائفية، وغير متسامحة، ومهيمنة؛ بل إنها «انتحارية» لأنها تحولهم، من جهة، إلى «قتلة» لهم رؤية مشوهة ومغرضة للعالم، ومن جهة أخرى إلى اختيارات انغلاقية يضطر الآخر إلى رفضها. هكذا يكون الذين هم من الطائفة «أهلنا»، نتضامن معهم وننصرهم، حتى ولو كانوا طغاة، أو نندد بهم ونرعبهم ونعاقبهم ونُخَوِّنُهم حين يجرؤون على إبداء تفهم لكلام الآخرين وتشكيك في كلامنا. نحن لا نتفهم تبريراتهم أو شروحهم أو إمكان عدم مجانبتهم للصواب، ولا نألو عناية بشكاوهم أو آلامهم أو الأضرار التي تلحق بهم. لا تهمنا إلا وجهة نظر أصحابنا، وهم الأكثر نشاطا في الجماعة، والأكثر ديماغوجية، والأكثر سُعارا (أنظر أمين معلوف، «الهويات القاتلة») وكأن الوصف موضوع لبعض نشطائنا! وفي نفس الاتجاه، يضيف معلوف أن الهوية المتعددة أمر حتمي بالنظر إلى العولمة؛ «فهناك، من جهة، ما نحن عليه في الواقع، وما نصير إليه تحت تأثير العولمة الثقافية، أي كائنات منسوجة من خيوط بكل الألوان، تشترك مع الجماعة الواسعة لمعاصريها في المرجعيات الأساسية، والسلوكات الأساسية، والمعتقدات الأساسية. ومن جهة أخرى، هناك ما نعتقد أننا عليه، أي أعضاء جماعة بعينها، لا جماعة أخرى، أو مريدو مذهب بعينه، لا آخر؛ ولا يتعلق الأمر بنفي أهمية الانتماءات الدينية والوطنية أو غيرها أو نفي تأثير موروثنا «العمودي» (...) إن الأمر يتعلق بالهوة التي تفصل بين ما نحن عليه وما نظن أننا عليه» (ن. م، ص. 119). إن الهوية المتعددة من المتبلات الهامة في وضع التنوع. إن التعددية اللغوية والثقافية ليست مجموعة من الثقافات الأحادية أو اللغات الأحادية التي ينحر بعضها بعضا. إن التعددية اللغوية، حين ينظر إلى اللغات الأجنبية، لا تعني أحادية لغوية أجنبية مفروضة، تُصْغِر اللغات الوطنية. إن شرطها الأول قيام نظام لغوي ترابي يتيح الأولوية للغات الوطنية، المرتبطة بالأرض (الأرض بتتكلم عربي،... أو مازيغي!) ومبدأ شخصاني يتنافى واللاعدالة اللغوية، وغير ذلك من الآليات التي تمكن من قيام سياسة لغوية وطنية متماسكة ومنسجمة وتنوعية وعادلة. وعلى المجلس الوطني للغات والثقافات أن يبادر إلى فتح نقاش ديمقراطي حول هذه القضايا والمبادئ، وإقامة ميثاق مرجعي للغات والثقافات، ومعجم للمفاهيم والألفاظ الموظفة الجديدة ومحتوياتها وتعاريفها. إن مهمته كبيرة وشاقة، وقد تصير أكثر يسرا إن هو لم يحاول فرض تصور فوقي غير مؤسس ولاديمقراطي، عوض توخي تراض يبنى ديمقراطيا، يشارك فيه مختلف الفاعلين والأطراف. فهل ما زال يغيب عنا أننا في زمن «الربيع العربي»، الذي يفترض قيام علاقة من نوع جديد بين الحاكم والمحكوم، يكون فيها الحاكم في خدمة المحكوم، لا العكس، وقيام ديمقراطية وعدالة جديدتين، ومن أهم مجزوءاتها العدالة اللغوية؟ ألا يكون من الخير، والعالم اليوم يحتفل بلغة الضاد، أن يهدي الله أصحاب القرار إلى تطبيق القوانين والتشريعات الخاصة باللغة العربية، حفاظا على كرامة المواطن المغربي، وإحقاقا لحقوقه اللغوية؟ *أكاديمي-باحث، رئيس جمعية اللسانيات بالمغرب