يوحي عنوان الرواية La maternitéفي جوانب منه إلى "فن الأمومة". لكن الروائي ماتيو سيموني Mathieu Simonet استعمله للدلالة على المكان الذي قضت فيه والدته باسكالPascale أيامها الأخيرة ( كان يسمى فيما قبل ب"مشفى الولادة"، وأصبح، فيما بعد، مركزا لمساعدة المرضى في حالات حرجة على استرجاع الأمل في الحياة). كانت الأم حينئذ تعتصر ألما وهي تقاوم، بشجاعة وعناد نادرين، مرض السرطان الذي اكتسح جسدها مُرهصا بنهايتها الوشيكة. ويعتبر ماتيو سيموني (وهو محام بباريس) من الروائيين الشباب الذين لفتوا انتباه النقاد بقدراتهم على ابتداع طرق فنية جديدة لإعادة تشخيص الواقع. وبعد الصدى الذي خلفته روايته الأولى في الصحافة الفرنسية (الكراسات البيضاء، منشورات سوي 2010)، أصدر عمله الثاني (مشفى الولادة، منشورات سوي، 2012) الذي حاز على جائزة القراء المسلمة من مجلة "أكسبريس"، وحقق رقما قياسيا في مبيعاته.(ننشر هنا مقالة الأستاذ الداهي بتصرف). ترصد الرواية ثلاثة مصائر متباينة في مناحيها ومساراتها، لكنها، في مجملها، تستمد نسغها من تجارب مشتركة مريرة وجراح غائرة وأليمة. وهو ما جعل كل مصير على حدة يتوجس من المستقبل، ويداري اللحظة الآنية، ويهيم في متاهة الماضي بحثا عن اجتثاث مخلفات الألم من منابتها. أصيبت الأم بمرض سرطان الثدي الذي اجتاح جسدها مرهصا بنهايتها الوشيكة. ويعاني الأب من اضطرابات نفسية حادة أودت به إلى حافة الجنون، وهو ما جعله ميالا إلى العزلة والانطواء.. يجتر الابن (السارد) ذكريات أليمة تهم تعرضه لاغتصاب محتمل من لدن شخص مجهول يُرجح أن يكون هو والده. وجد السارد في الحكي خير وسيلة للتخلص من ثقل الماضي الأليم، وتوطيد مصالحة مع الذات والآخرين، وفتح مسارب وشق قنوات حرصا على الإمساك بتلابيب الأضواء الهاربة والأحلام المنفلتة. شرع في كتابة رواية جديدة موسومة ب»الكراسات البيضاء»، مدونا محكياته الذاتية التي تستوعب تجاربه وتأملاته في الحياة. وحفز والديه على الانخراط في مشروع الحكي لتسليط مزيد من الأضواء على الجوانب الداجية في حيواتهم المشتركة، وملء ثقوب الذاكرة، ومعاينة حدث معين من زوايا ورؤى مختلفة. استجابت والدته طوعا لطلبه، وأضحت، في أوج انفعالها وامتعاضها من المرض الذي توغل في جسدها، ترد على أسئلته بالبريد الالكتروني أو بتدوين شذرات من خواطرها أو حياتها في أوراق متفرقة. لم يستسغ الأب الانخراط في مشروع الحكي، لكنه تورط تدريجيا في شركه وهو يحترس من إثارة موضوع الاغتصاب الذي يُحتمل أن ابنه تعرض له؛ مما حرضه على ممارسة الشذوذ الجنسي بحسرة وألم شديدين. اعتاد الأب على التملص من الأسئلة الحرجة التي يوجهها إليه ابنه سعيا إلى الكشف عن حقائق مغفية. كان يداوم على قراءة مدونة ابنه حتى يكون على بينة مما يكتب، وعلى أهبة للتدخل في الوقت المناسب لنهيه عن النبش في ماضيهما المشترك الذي قد يكشف عما يحدث تصدعا في علاقتهما. تقصد السارد أن يبئّر معظم أحداث الرواية على الأم حرصا على بيان حالتها النفسية والانفعالية وهي تجتاز فترة عصيبة من عمرها، وعلى إعطائها الكلمة لاستحضار تجاربها في الحياة ومواقفها وأحاسيسها حيال الوجود. وقد اضطر، بهدف توريطها في فعل الحكي، إلى توجيه أسئلة محددة إليها وحفزها على الإجابة عنها. وأشرك، في هذا الصدد، كل من خالطتهم في الحياة (الأقارب، الطبيب، الممرضة، القسيس، المرضى...) لملء فٌرجات الذاكرة وبياضاتها، والإدلاء بمعلومات إضافية. كما كاتب مسؤولين من اختصاصات مختلفة لموافاته بآرائهم عن الموت(إزابيل بوزانصون عالمة نفسانية، ألتيز عراف، إزابيل بلونديو محللة نفسانية، دانيل لوكمبت طبيبة، أرنو قسيس، جون لوك محلل نفساني..). وهكذا اتخذت بنية الرواية صبغة حوارية مُشْرعة على احتمالات وتأويلات عديدة، ومشيدة على أرضية نصوص ومرجعيات فكرية مختلفة، التزم، خلالها السارد بالكتابة الشذرية التي تلتقط الأخبار والانفعالات في صخبها وعنفوانها وتلقائيتها. وعمد، في الآن نفسه، إلى تذويب ملفوظات الآخرين في سبيكة السرد إلى حد يصعب فيه التمييز بين قول السارد وكلام الشخصيات. سعى السارد، من خلال التفاتاته الرمزية والإنسانية، إلى الاقتراب من أمه والتغلغل أكثر في عوالمها، وفهم كثير من أسرارها المُلتبسة وأحلامها المحبطة. كانت تكثر من عتابه لكونه لم ينتبه إلى تدهور صحتها، ولم يبادر إلى نهيها عن معاقرة الخمر، رغم ملازمة القنينة لسريرها. تزوجت في ريعان شبابها، وبعد شهرين من الزواج انفصلت عن شريكها بسبب علاقته الشاذة مع بستاني بفندق المامونية في مدينة مراكش، وعدم قدرته على إحساسها بأنوثتها وتلبية رغباتها الجنسية. تزوجت، فيما بعد، شخصا آخر هو والد السارد. وبعد شهرين أيضا من قرانهما رحل إلى قُطر البيرو ثم عاد منه مجنونا. لما علمت أن ثديها مصاب بداء السرطان أضحت الحياة، بالنسبة لها، جحيما لا يطاق. اجتاح الداء عظامها، وأنهك جسدها وبعثر أوراقها. وهو ما جعلها أكثر تشاؤما وتبرما من الحياة. أضحى السارد، أكثر من أي وقت مضى، مهموما بالتفاصيل التي تهم مسار والديْه في الحياة. يريد أن يعرف عنهما أشياء كثيرة. وهذا ما حرضه على استفسارهما عن كثير من القضايا .. كيف تورطا في الحب أول مرة؟ ما موقفهما من الحياة والموت والزواج؟ كيف ينظران إلى الجسد بعد أن تفارقه الروح؟ ومن بين الأسئلة الحرجة التي وجهها السارد إلى والديه سؤال يهم ما إن كانت راودتهما فكرة الانتحار في يوم من الأيام. جاء جواب الأم على النحو الآتي: «نعم حدث لي ذلك مرة في حياتي..كنت أسكن صحبة أختي زويzoé في زقاق لانونصياصيون.. غادرتِ المنزل لقضاء عطلة نهاية الأسبوع في مكان آخر..كنت أشعر بألم حاد في أضراسي.. تناولتُ مسكنا.. لكنه لم يكن له أي أثر إيجابي...تناولتُ كل الأدوية المتوفرة لدي...سقطت مغمى علي.. من حسن الحظ عادت أختي إلى المنزل لاسترجاع ما نسته.. وجدتني جثة هامدة..أجريت تحليلات دقيقة، وخضعت لحصص العلاج النفسي.. ولما فتحت عيني، وجدت نفسي في عالم بديع.. كنت في شرفة مزدانة بالأزهار، وخمنت أنني في جنة». المرض والرغبة في الحكي بقدر ما يتوغل مرض السرطان في جسد الأم بقدر ما تتوطد رغبتها في الحكي ويراودها شعور عارم بعدم تناول الأدوية حرصا على الرحيل عاجلا إلى العالم الآخر. ما يرعبها أساسا ليس الموت وإنما الألم الذي يعتصر أحشاءها ويهد كيانها. «أمي ليست خائفة من الموت. إنه مجرد سبات عميق. ما يخيفها هو مكابدتها للألم .. تعرف أن موتها وشيك لذلك لا ترى أي جدوى من استئناف حصص العلاج الكيميائي» (ص 64-65). ما يرعبها أيضا هو أن تجد نفسها محاصرة في مكان مغلق. وهذا ما جعلها تؤثر أن يعرض جثمانها على سطح منزل حتى تلتهمه الغربان عوض الديدان. لما اطلعت الأم على ما كتبه ابنها عنها عاتبته على عدم ذكر كثير من المعطيات التي صدعت بها. وجدت نفسها أحيانا أمام امرأة لا تشبهها. وعندما تعاين مدى مطابقتها لها تشعر بسعادة عارمة. حفزته على مواصلة مشروع الكتابة معتزة بمؤهلاته وقدراته. ومن شدة إعجابها وافتتانها بعوالمه الخيالية حفزت طبيبها على الاطلاع على مدونته والاستمتاع بما تزخر به من محكيات ذاتية مفعمة بالمشاعر والأهواء المتضاربة. مما أسهم في تدهور حالتها الصحية إلحاحُها على إدمان الخمر والتدخين، وعدم تناول الدواء.. بعد فترة انتظار طويلة وشاقة استجاب مركز «جون دروكا» Jean-Drucat لطلبها بعد شغور سرير. نظرا لقدرته الاستيعابية الضيقة (ست وثلاثون غرفة) يتعذر عليه استيعاب كل المرضى، في حالات حرجة، الذين يصرون، من خلال طلباتهم المتكررة، على الاستشفاء به. لا تُقدم لهم الإسعافات الضرورية فحسب، وإنما تزرع في أنفسهم جرعات إضافية من الأمل للاستمتاع بما تبقى من عمرهم. مُنع عنها التدخين ليس لتأثيره السلبي على جسدها فقط، وإنما لما يحمله من خطورة بتفجير الأكسجين المتوفر في غرفة الإنعاش. عاشت الأم أياما معدودات في المركز، ثم فارقت الحياة مخلفة وراءها أسرارا كثيرة تحتاج إلى مزيد من الوقت لافتضاضها وتبديد غموضها. شذرات روائية الرواية، في مجملها، عبارة عن شذرات مختلفة استقاها السارد من أقلام أصحابها أو أفواههم. وقد حرص أحيانا على استجوابهم واستفسارهم حول قضايا معينة سعيا إلى فهم طبيعة العلاقة التي كانت تجمعهم بأمه، وحرصا على استجماع كثير من الشهادات والمعطيات التي تهم مسارها وتجربتها في الحياة وخاصة لما أنهكها مرض السرطان. يلجأ أحيانا إلى معاودة السؤال نفسه بصيغ مختلفة على فترات متباعدة. وهو ما يجعل الجواب يتلون بألوان الظروف المختلفة، ويصطبغ بأهواء شتى أملتها الحالات النفسية التي تعتري كل شخصية على حدة. تقصد السارد أن يعيد كتابة أقوال الآخرين كما هي محافظا على أصالتها الأسلوبية وشحنتها الدلالية، ولا يتدخل إلا للتعليق عليها، وإضافة معلومات جديدة إليها، وتبويبها حسب ترتيبها الزمني. ولم يخل التوليف من المفارقات الزمنية التي أفضت إلى تشابك الأزمنة وتداخلها، والإكثار، خصوصا، من الاسترجاعات المتماثلة حكائيا (Analepses homodiégétiques) التي تروم التعريف أساسا بسوابق الأم، وسد ثقوب تخللت تجاربها في الحياة، والرجوع إلى آثار بعينها للتذكير بأهميتها، ومعاودة النظر إليها من زوايا مختلفة. استعان السارد بتقنية اليوميات التي أسعفته على رصد اللحظات الصعبة والحرجة التي قاست منها الأم، واكتوى، هو، أيضا بجمراتها. لقد حرص على استجلاء كل لحظة على حدة بما تحمله من مواقف أنطلوجية ومشاعر إنسانية في غاية الرهافة والرقة. كان يعرف، من خلال تقارير الطبيب وتدهور صحة الأم، أنها تمر على جفن الردى. ولهذا ارتأى أن يقدر كل لحظة ويعطيها العناية المستحقة لعله يفلح في استجماع أكبر قدر من المعلومات عنها، ويضمد جراحها، ويشعرها بمكانتها في قلبه، ويساعدها على استرجاع ثقتها بنفسها.