في بلدة الباب، التي تقع على مسافة 35 كيلومترا من الشمال الشرقي من حلب، يسيطر الجيش السوري الحر. ولعل هذه ليست بشرى طيبة لمواطنيها؛ ففي نهاية الشهر الماضي، قرر 80 متطوعا من بين مواطني البلدة إقامة «شرطة آداب»، هدفها معالجة أعمال السطو والهدم والاغتصاب التي تنفذها قوات الثوار في البلدة. واضطر المبادرون إلى القوة الجديدة إلى خوض مفاوضات مع قادة الكتائب المختلفة التي تسيطر في البلدة، وذلك لأن كل كتيبة تدار بشكل مستقل وكل قائد كتيبة ينتمي إلى تيار سياسي أو ديني آخر. وعرض المبادرون إلى تشكيل الشرطة أن تقدم كل كتيبة مجموعة صغيرة من المتطوعين، يرتدون ملابس مدنية بحيث لا يرتبطون بكتيبة محددة أو بتيار ما، ويظهرون كمن يعملون باسم كل الكتائب المقاتلة من أجل كل مواطني البلدة. وطريقة العمل بسيطة: عندما تتبين هوية المجرم، يستدعى أمام المحكمة المحلية؛ وإذا رفض أو اختفى، تخرج الشرطة للبحث عنه، ومصيره يكون في أيديها. لم توافق كل الكتائب على المشاركة في المبادرة وعشرات المتطوعين يتحركون في شوارع البلدة ملثمين خوفا من انتقام «مقاتلي الحرية». ليست هذه هي المبادرة الأولى من نوعها التي يتخذها المواطنون ضد مقاتلي الجيش السوري الحر. في دمشق وحلب وحمص، يعمل مواطنون مسلحون كحماة للأحياء، لمنع أعمال السلب والنهب أو المس الجسدي بالمواطنين. كما تحاول هذه المجموعات السيطرة على النظام المدني، معاقبة أصحاب المخابز الذين يستغلون الوضع ويرفعون أسعار الخبز، مرافقة النساء والبنات في طريقهن إلى المدرسة أو السوق، وطرد المتاجرين بالبشر ممن يصلون كي يغروا النساء بالفرار إلى مخيمات اللاجئين التي يظهر لاحقا أنها بيوت دعارة. وهكذا بينما تتراكم في الغرب المعطيات عن أعداد القتلى (نحو 45 ألفا) والنازحين (نحو نصف مليون)، وعندما تدور المباحثات المضنية بين المعارضة وبين الدول الغربية والدول العربية على الطريقة الأنجع والأسرع لإنهاء الأزمة في سوريا، تعج الحياة داخل الدولة تحت الأرض بملايين البشر الذين لا يشاركون في عملية اتخاذ القرارات، فهم لا يقاتلون ويضطرون إلى الانتظار بقلق يومي إلى أن يتخذ أحد ما خطوة حقيقية كي تعود حياتهم إليهم. وهذا انتظار يمزق الأعصاب، لأنه حتى بعد أن تشكل في الشهر الماضي ائتلاف حركات الثورة السورية، تتردد دول الغرب في كيفية الانتقال إلى المرحلة التالية. وكان توحيد الحركات الثورية -مطلب الولاياتالمتحدة- شرطا أساسيا لمواصلة تأييد المعارضة، ولكن عندما طولب الغرب بالتزويد بالسلاح والذخيرة بدا أن فرنسا وحدها هي المستعدة، بحذر، لدراسة الفكرة بجدية. واشنطن تخشى، وعن حق، من أن يصل السلاح الذي يرسل إلى سوريا إلى أيدي منظمات معارضة إسلامية متطرفة، كتلك التي توشك هي نفسها على تعريفها كمنظمات إرهابية. هكذا هي، مثلا، منظمة «جبهة النصرة» التي أعلن زعماؤها الملتحون والمعتمرون للعمامات السوداء والرافعون للأعلام السوداء أن في نيتهم إقامة إمارات إسلامية في سوريا، وهم لا يتعاونون مع الجيش السوري الحر، ولهم كتائب خاصة بهم تسمى بالأسماء الإسلامية التقليدية، ومحل الاشتباه هو أنهم فرع سوري لمنظمة القاعدة العراقية. المشكلة التي تقض مضاجع الدول الغربية وإسرائيل هي مخزونات السلاح الكيماوي لبشار الأسد. ولكن عندما تبشر كتائب الجيش السوري الحر، العصابات المسلحة ومنظمات القاعدة كل يوم بنجاح آخر وبسيطرة أخرى على قواعد الجيش السوري، فليست مسألة الاستخدام الذي سيقوم به الأسد أو لا يقوم به للسلاح هي التهديد الأساس.. المسألة الاستراتيجية الآن هي مَنْ ضِمن المنظمات المسلحة، التي لا تعمل بالتنسيق، ستسيطر أولا على هذه المخزونات. بحث مشوق أجرته إليزابيث أوباجي من معهد الحرب في الولاياتالمتحدة يشير إلى أن الإدارة الأمريكية لا يمكنها أن تميز بين المعتدلين والمتطرفين في أوساط المنظمات الدينية المختلفة العاملة في سوريا. وفجأة، يتضح الخطر الحقيقي وهو ليس نظام الأسد، الذي يقتل جنوده كل يوم عشرات الأشخاص، بل من سيأتي مكانه. ليست طبيعة الديمقراطية السورية ولا طبيعة الدولة أيضا هما ما يشغل، حتى الآن، بال الدول الغربية بل، مثلما في العراق، سلاح الدمار الشامل. لم يعد أحد منذ الآن يتحدث عن إقامة مناطق آمنة للمدنيين الفارين، ولا عن خطوات سياسية لتغيير الحكم؛ فالرئيس أوباما كان قاطعا وواضحا حين قال إنه إذا استخدم الأسد السلاح الكيماوي فسيكون هذا مبررا للتدخل العسكري. وطالما أنه يقتل مواطنيه بحقن يومية محددة فإنه سيواصل الغرب التلوي بلسانه، غير أن السلاح الكيماوي بات أمرا آخر. ولكن ماذا إذا أصبح الجيش السوري الحر أو «جبهة النصرة» أرباب البيت؟ عن «هآرتس»