تتعاظم الكتابات على الأصولية الإسلامية، وتظهر تجسدات سياسية وأيديولوجية واجتماعية لها مع بعض الممارسات المسلمة هنا وهناك، بحيث يبدو الأمر كأنه مقتصر عليها في المرحلة المعاصرة. وفي هذه الحال، يصبح طرح السؤال التالي ذا مصداقية: لماذا يبدو الأمر على هذا النحو، كأنما الأصولية في أساسها وفروعها إنما هي ظاهرة إسلامية محضة؟ وبالطبع، فإن هذا الانطباع يكتسب مزيداً من الرسوخ في أوساط شرقية وغربية، كلما تعاظمت واتسعت الممارسات الإرهابية باسم “الأصولية الإسلامية”. ومع اضطراب المواقف والتأويلات، راح الانطباع المذكور يتركَّز ويتسع ليشمل “الإسلام ذاته”. وهنا يلاحظ أن معضلات معرفية واعتقادية أخذت تطرح نفسها بقوة، مُسهمة في استعادة الحديث عن ضرورة الدراسات الدينية المقارنة وعلم اجتماع الدين وغيره، من باب الدعوة إلى طرح المسألة في حقل الأديان الأخرى. بيد أن الموقف، ربما منذ بدايته، كان يُفصح عن أن الأصولية ليست حالة تخصُّ الإسلام وحده، بل هي حالة يمكن أن تتجلى في المسيحية كما في اليهودية والزرادشتية…إلخ. كما يمكن أن تتجلى في حقول مجتمعية متعددة، مثل السياسة والأيديولوجيا والاقتصاد والتربية. ولا شك أن غياب أو قلة الدراسات حول الأصولية وإمكانية تجلياتها في هذه الحقول، أغلقت الباب طويلاً عليها وبنسبة عالية، وفي الفكر العربي والإسلامي الراهن، نجد مصداقية ما نقول. وها هنا نحذّر من الوهم القائل بأن أهمية أو خطورة النَّحو الأصولي الإسلامي بذاته هو العامل الذي يكمن وراء ظهور الأصولية الإسلامية فعلاً وخطاباً وراء ظهور سيل لم ينته من الكتابات حولها في الشرق والغرب. فالبشر لا يطرحون من الأسئلة والقضايا والمعضلات النظرية، إلا ما يعبر عن حاجاتهم العلمية والنظرية راهناً وفي المنظور المستقبلي بدرجة أو بأخرى، على الباحث أن يكتشفها. لقد ظهرت الأصولية الإسلامية الراهنة في حقبة الصراع الاستعماري العولمي على النفط العربي، خصوصاً، بعد تفكك النظام الدولي السابق، نظام التوازن النسبي العسكري والاقتصادي والاستراتيجي. وهذا، بدوره، أفسح الطريق لظهور ما كان موجوداً دون جَلَبة، نعني بذلك -خصوصاً- الأصوليات “الأخرى” ومنها المسيحية. لقد وضعنا يدنا على دراسة مهمة حول الأصولية المسيحية بقلم باحث أو باحثين أصدروا هذه الدراسة بعنوان (محفّزات للتحدث عن أخطار الأصولية- ورقة محفزات صادرة عن المجلس الأعلى المسيحي العمومي في برلين- براندنبرج، سبتمبر من عام 2006، وقد أعيد طبعها أو تصويرها عام 2009). وقد وصلتني هذه الدراسة من برلين، حين كنت في إرلانجن، دون ذكر اسم المرسل، وهي تتألف من اثنتي عشرة صفحة تحمل العناوين الجزئية التالية: حين تتلاشى الحقائق وتهتز الأصول- الخلفية النظرية المعرفية؛ الأصولية: المسألة، والراهنية، والمصدر، الأصولية المسيحية في الواقع الراهن، أصولية السوق الاقتصادية، ما الذي نأخذه على محمل الجد من «الأصلي». في تلك الدراسة نضع يدنا على موقف تدقيقي شجاع من الأصولية المسيحية، وهو موقف تاريخي نقدي من هذه الأخيرة، ويأتي على عوامل نشأتها راهناً، كما يبحث في تجلياتها ضمن الحقول المسيحية الثلاثة الكبرى في الكنائس البروتستانتية، وفي الأخرى الرهبانية الكاثوليكية، وفي الثالثة الأرثوذكسية. ويسعى الباحثون، كتَّاب الدراسة، إلى ضبط المواقف المتجلية في تلك الحقول الثلاثة، عبر اكتشاف ما يوحِّد بينها وما يجمع من آراء واعتقادات وتصورات لاهوتية ومجتمعية مدنية، ويرون المدخل العمومي إلى ذلك ماثلاً في مفهوم (الأزمة)، الذي أصبح يمثل قاسماً مشتركاً بين كل أو معظم أطراف الحديث والحوار والصراع في المجتمعات الراهنة. فإذا كانت تلك الأطراف تتحدث عن أن تلك الأزمة تجد مصدرها أو بعضاً منه فيما يتحدثون عنه بمثابته “مؤامرة صهيونية عالمية”، إضافة إلى “الجذور اليهودية للشيوعية والماسونية”، فإنهم يواجهون مظاهر الأزمة إياها وأسبابها ونتائجها، على النحو التالي: مواجهة الأزمة ذاتها بوصفها بنية عالمية كلية، بالدعوة للعودة إلى “الكتاب المقدس”، كما هو وعبر التعبير عن الرضا بحكم الربّ بإطلاق (الثقة بلطف الرب وحكمته وحبّه للمؤمنين به)؛ ومواجهة التعددية الاعتقادية والسياسية والأيديولوجية بنصّ واحد يطرح العالم بقطبي الخير والشر، وهو كما كان سيظل صحيحاً وصافياً، ومواجهة القول بإمكانية تأويل النصّ، والوصول إلى آراء وتيارات مختلفة برفض التأويل، ومواجهة القول بأن الدين (المسيحي) توقف عن مواكبة العصر، بالتأكيد على أن المؤمنين هم الذين توقفوا عن الإيمان الصحيح، والتأكيد على العودة إلى البساطة في فهم الدين بدلاً من تعقيد العصر والبشر، ورفض التشكيك بمنظومة القيم الدينية لصالح القول بالعودة إلى النبع اللاهوتي، ورفض التاريخ لصالح الأصل الكامل…إلخ. ويصل كتّاب الدراسة إلى أن الخلفية الأعمق والأخطر للأصولية المسيحية الراهنة تكمن في «السوق الليبرالية الجديدة»، التي قال شكسبير عن سالفتها بأنها تحوّل المرأة الشمطاء إلى فاتنة.