كثيرة هي مظاهر الفوضى الاجتماعية التي أصبحت تؤرّق بال الإنسان المغربي في علاقته بالاستقرار النفسي والاجتماعي الذي غدا مهدَّداً بفعل ما يتكرر من شغب هنا وهناك.. فكيف تنظر إلى هذه الظاهرة، بعد أن انتقلت العدوى إلى محيط وداخل المؤسسات التعليمية؟ بداية، تجدر الإشارة إلى أن الشغب سلوكٌ مرضيّ يؤشر على خلل عقليّ ونفسي لدى المشاغب، أساسه عجزه على فهم ذاته وعدم قدرته على إدراك علاقتها بذاتها وبمحيطها. إنه عجز ناتج عن جهل معرفيّ أساسا، وكلما استفحل ترتب عنه ضياع قدرة الفرد على الانضباط الذاتي، فيكون العبث ويصبح بخس الوجود هو القناعة الراسخة لديه.. ويؤشر ذلك، في مجمله، على أزمة قيّم من المفروض أن تكون التربية قد عالجتها في مراحل عمرية متقدمة، وهو ما لم يحدث، إذ ساد الرهان منذ زمن على تكوين «مواطن صالح « صلاحا فضفاضا، ركيزته حشو أذهان المتعلمين بمعرفة جاهزة أدّت إلى عدم احترام الإنسان أخاه الإنسان وإلى الإساءة إلى المكتسبات، على اختلافها. إنه الضياع الذي يعطي صاحبَه إحساسا مزيَّفا بالوجود، فيدفع به إلى مواجهة غموض الحياة التي يحياها وعنفها بعنف تتعدد أشكاله، وفي ذلك تعطيل للزمن الجماعيّ وإخلال بقيمة الانتماء في بُعده التاريخي. ومن خلال استقراء التجارب التربوية عالميا، فإن معالجة هذا الخلل رهينة بترسيخ التربية المدنية، التي من شأنها أن تكرّس لدى الفرد الانضباط الذاتي، ويتطلب علاجها تجند الباحثين التربويين والسيكولوجيين والسوسيولوجيين وتضافر جهود كل القطاعات. لا شك أنك تبذل في هذا الإطار في المركز المغربي الذي ترأسه مجهودا ما. فكيف يمكن للتربية المدنية أن تعمل على حفظ النظام العام وأن تخدم ، بالتالي، مرحلة تاريخية تتطلب تعبئة وطنية داخلية يتحقق بموجبها البعد التشاركيّ في تحمل المسؤولية؟ -التربية المدنية، أو كما يسميها البعض التربية على المواطنة، وسيلة تنشئة اجتماعية تعنى بتنمية قدرات المواطن باعتباره الرأسمالَ الحقيقيَّ للمجتمع، القادر على المساهمة في بنائه الحضاري. ومن تمة فهو يعَدّ الركيزة الأساسية لكل إسترتيجية تنموية ممكنة، الأمر الذي يفرض تمتيعه بمجموعة من الحقوق المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية كي يعيّ ذاته ويقدّر قيمتها على أساس معرفيّ متين يعزز فرصه في المشاركة في تنمية مجتمعه ديمقراطياً.. وذلك ما يفرض تربية المواطن اعتمادا على منهج يقوم على مجموعة قيّم جديدة تتغيى إقامة علاقات نوعية بين الأفراد والجماعات، وهي مهمة مشتركة بين منظمات المجتمع المدني ومؤسسات الدولة، على اعتبار أن التربية المدنية ينبغي أن تشكل مشروعاً تكاملياً شاملاً يقع على عاتق كافة المؤسسات الحكومية وغير الحكومية بهدف توفير مناخ عامّ يساعد على اكتساب معارف ومهارات وسلوكيات وقيّم تحقق ما يسمى وظيفة الضبط الاجتماعي وتكرس فاعلية المواطن. يبدو من خلال ما أشرت إليه أن ترسيخ التربية المدنية مسؤولية مشترَكة بين جمعيات المجتمع المدني وجهات أخرى، فما هي هذه الجهات التي ينغي الرهان على دورها في تفعيل هذا المشروع المجتمعي؟ بما أن التربية المدنية أداة تنشئة الإنسان على المواطنة فمن المفروض أن تضطلع بها الدولة، وخاصة منها وزارة التربية والتكوين، من خلال تحمّل جميع أجهزتها مسؤولية إشاعة ثقافة المواطنة وتفعيلها بوضع المناهج وإقرار المواد الدراسية وطرق وأنشطة التدريس التربوية المختلفة التي تواكب العملية التربوية والتعليمية الهادفة إلى بلوغ هذه الغاية.. وكذا وزارة الشباب، من خلال ما يمكن أن تؤديَّه من أدوار طلائعية في هذا الاتجاه، نظرا إلى اتصالها المباشر بالشباب عبر أنشطة مختلفة تستهدف تقوية الشعور بالمواطنة من حيث هي قيّم إنسانية تنهض أساسا على الإيمان بالحرية والتمتع بالكرامة الإنسانية المتأصلة فيه والالتزام بمبدأي الحق والواجب. فمن شأن ذلك أن يجعل التربية المدنية همّاً مشترَكا يحقق التفكير فيه والعمل على تصريفه التعبئة الإيجابية التي من شأنها أن تقوّي الجبهة الداخلية في مواجهة مختلف التحديات التي قد تقف في وجه المسيرة الديمقراطية التي انخرط فيها المغرب منذ زمن. ولذلك فإن المعيار الحقيقيَّ لنجاح مشروع التربية المدنية يتمثل في مدى توسيع مفهوم التربية المدنية ومدى دعم وتعزيز مشاركة الأسرة والمدرسة ومؤسسات المجتمع المدني مع الهيئات الرسمية الحكومية وكذلك مختلف وسائل الإعلام في صياغة وتنفيذ برامج ومناهج التربية المدنية، وفي تقييمها بما يتناسب وخدمة الأهداف المجتمعية المعلنة في ظل الدستور الجديد، وفي مدى نجاعة الوسائل والأساليب التي تعتمدها المؤسسات التربوية، خاصة لتأهيل المواطنين، وفي مدى التنسيق بين مختلف الفعاليات على أساس شراكة مواطِنة تتحدد فيها المسؤوليات وآليات الاشتغال وطرق التقويم خدمة لمشروع اجتماعيّ يعي فيه الفرد ذاته ويعتز من خلاله بانتمائه الحضاري ويدافع عنه بعيدا عن كل شغب. مدير المركز المغربي للتربية المدنية