يروي إيتيان دي لابواسييه، في مقالته المعنونة ب»العبودية الطوعية»، قصة رجلين من إسبرطة، ذهبا كرسولين إلى كسرى، ملك الفرس، وحسبا أن كسرى سيقتلهما لا محالة، إذ اعتاد أهالي إسبرطة على ذلك. لكن حين التقيا بأحد خدام بلاط كسرى، وكان مستشارا له، أكرمهما وأخبرهما بأن سيده سيرحب بهما لأنه يكرم من يستحق التكريم، وأنهما لو قاما بخدمته فسيعيِّنهما حاكمين لإحدى المدن؛ فأجاباه: إنك تقدم إلينا نصيحة غير نافعة، إذ تطلب منا أن نكون خدما، لأنك تجهل ما ننعم به من حرية. ولم تعرف غير إحسان الملك عليك، وتجهل طعم الحرية العذب، ولو أنك خبرت هذا الطعم لنصحتنا بالدفاع عنها، لا بالرمح والترس بل بالأسنان والأظافر أيضا. فالحرية السياسية ليست حقا طبيعيا فقط، بل إنها قيمة يجب الدفاع عنها والتضحية في سبيل الحفاظ عليها. وإن التخلي عنها عن طواعية وتدبيج المبررات لذلك إنما هو سلوك غير فطري، ذلك أن الأصل في الإنسان هو الحرية، وفي قولة سيدنا عمر بن الخطاب البيان الوافي، حيث قال: «كيف استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا»، فالحرية أصل والاستعباد طارئ تحكمه تنشئة اجتماعية أو نظرة انتهازية؛ ففي الأولى يتربى الفرد على الخضوع والعبودية ولا يعرف غيرها، ولا يفتقد الحرية لأنه لم يتذوقها؛ وفي الثانية يُستغل الطمع والجشع البشري والرغبة في تحقيق مكاسب ما، غالبا ما تكون تافهة مقابل الثمن المدفوع لأجلها، وهو الحرية. ولأن الحكام المستعبِدين يفتقدون شرعية الهبة، فإنهم يسعون إلى خلق الرهبة في نفوس المستعبَدين، وذلك بتسويق أنفسهم بشكل يميزهم عن باقي المحكومين، فهم الضامنون للأمن والاستقرار والعيش والشفاء والحق، وبدونهم تتوقف الحياة، فلا فكرة ولا اقتراح ولا مبادرة أفضل وأنجع من فكرتهم واقتراحهم ومبادرتهم. وتلعب الإشاعات التي ينشرها العامة ويصدقونها دور المرسخ لصورة الحاكم، فريد زمانه وعصره. ويتم تسييج ذلك بطقوس تصاحبهم في تحركاتهم وإطلالتهم على شعوبهم؛ فقد كان ملوك الأشوريين لا يظهرون أمام شعوبهم، لترسيخ فكرة الإلهي فيهم عند الآخرين. وكان فراعنة مصر عندما يظهرون في الأعياد أو غيرها، يكللون رؤوسهم بأغصان النخيل تارة أو بصور تحجب حقيقة وجه الحاكم، وكل هذا حتى لا يقارن الشعب بين صورة الحاكم وصورة الإنسان العادي، لأنه سيكتشف حينها أن لا شيء يميز هذا الحاكم عنه. وما بقي حيا بعد كل ذلك من قيمة الحرية الفطرية تتولاه جيوش القمع والبطش والإخضاع. إلا أن القراءة التاريخية لآليات الإخضاع هذه تؤكد أنها لا تصمد أمام قوم يمجدون الحرية السياسية، ولا تجد لها تأثيرا إلا في ظل العبودية الطوعية باعتبارها سلوكا جبانا يجعل المستعبَد مهيأ لتقبلها والخضوع لها، بل وإيجاد مبررات لها وأحيانا الدفاع عنها، ظنا منه أنه يحقق الاستقرار ورغد العيش لنفسه ولأسرته، بينما الحقيقة أنه لا يعدو أن يكون قد بادل أفضل ما يملكه، وهو الحرية، بأسوأ ما يملكه الآخرون وهو التسلط؛ فالقبول الطوعي للعبودية لدى الجمهور العريض، التي تنافي الحقيقة الإنسانية والجوهر البشري، هو الذي يقدم الذرائع إلى المستبد حتى يسيطر عليها. والأدهى من كل ذلك هو عندما تتحول العبودية الطوعية إلى ثقافة مجتمعية، لا يقارن فيها المجتمع بين ما يَأخذه وما يُسلب منه، ويورث الأمر عبر الأجيال التي تتحول بدورها إلى وقود لاستبداد الطاغية. إن المستبد لا يصير مستبدا إلا عندما يملك الرغبة في التسلط ويملك الآخرون الاستعداد للاستعباد. وولادة البشر أحرارا غير كافية، ذلك أن الدفاع عن هذه العطية الإلهية واجب لا يقل أهمية عن غيره من وجوه الفطرة السليمة التي فطر الله الناس عليها؛ فالحرية تأتي دائما في المقدمة وفق أولويات التصور الإسلامي للكون والإنسان والحياة، والأدلة على ذلك كثيرة، من أهمها أن اعتناق الإسلام يجب أن يأتي نتيجة اختيار حرّ، بدليل قوله تعالى: (لا إكراهَ في الدين قد تبينَ الرشْدُ مِنَ الغَيّ)، بمعنى أن الحرية مطلوبة شرعا كمدخل لاعتناق الدين، وصدق الله تعالى حيث يقول (أفأنتَ تُكرِهُ الناسَ حَتى يَكونوا مؤمِنينَ). فإذا كان الله تعالى، وهو ملك الملوك القاهر فوق العباد، لم يفرض دينه على أحد، فكيف يسعى مخلوق إلى سلب أخيه المخلوق حق الاختيار وحرية القرار؟ وكيف يقبل أناس بعبودية طوعية تلغي إنسانيتهم وتحط من كرامتهم؟ وكيف يرجى ممن يقبل بالعبودية الطوعية للاستبداد الشيء الكثير في منازلته وإسقاطه؟ فهو لا يدرك بشاعته وقبحه، ولا يعلم حلاوة الحرية التي يحول بينه وبينها، وبالتالي فالهدف من نزاله وتدافعه غير واضح أمامه، شأنه في ذلك شأن الجيش الذي يقاتل في سبيل شيء لا يعرفه أو يستصغره وينقص من قيمته ولا يرى ضرورة له، فهكذا جيش تكون هزيمته محققة مهما كان عدده وعدته. إن كل ذلك يعني أن الأولوية للحرية.