كم تكفي من قرينة وحجة حتى يتأكد لمن لم يقتنع بعد بأننا شعب نعيش تحت ظل نظام ملكي اسبتدادي واستعبادي؟ نظام يستعبد شعبا كاملا من أكثر من 33 مليون مغربية ومغربي ورثوا الاستعباد ورضوا به إلا قلة قليلة من الأحرار الذين يأبون على أنفسهم أن يكونوا مجرد عبيد لمستبد يستعبدهم باسم الدين ويتعالى عليهم بصفة النسب الشريف، ويتحكم فيهم بامتلاكه ثرواتهم يوزع بعضا منها عليهم على شكل هبات وعطايا ومناصب وامتيازات وألقاب وأوصاف وصدقات... ما بين العبودية والحرية شعرة تكاد تكون لا مرئية لا يراها إلا الأحرار، وهؤلاء طينة نادرة مثل ندرة اللؤلؤ في البحر الميت. إن من يصنع المستبدين هم أولا الأشخاص المقربون منهم، يبررون لهم استبدادهم، ويصورون لهم الشعب بأنه مجرد عبيد خانعين خائفين حاسدين وحاقدين...ومن يزيِّن للمستبدين صورهم وأعمالهم هو الإعلام الدعائي، الذي يبجل الطاغية ويمدحه ويرفعه إلى مرتبة الآلهة المقدسة التي لا يأتيها الباطل مِن بين يديها ولا من خلفِها، لا تُسأل عما تفعل ولا معقِّب لحُكمها. إن المستبدين ليسوا أناسا فوق البشر، صنعتهم الطبيعة من طينة غير طينة باقي البشر، إنهم مثلنا جميعا يمرضون ويستحمون ويغضبون ويحزنون ويحقدون ويحسدون، لم يخترهم الإله ولم ينزِّل عليهم الوحي، وليسوا معصومين من الخطأ ولا حتى الخطيئة. إن الذي يصنع المستبدين هو تملق المقربين وتزلف الانتهازيين وتوسل الحثالة من صغار المستبدين حفاظا على مناصبهم، وتملق الجشعين الذين لا يهمهم سوى مراكمة الثروات وجمع الأموال، كما يصنعهم صمت الغالبية الصامتة التي ترضى بالإهانة وتسكت على الظلم، ثم خوف المثقفين أو بيعهم لضمائرهم مقابل هبات وعطايا ومنح تجعلهم يزحفون على بطونهم ويفكرون بغرائزهم قبل عقولهم، و كذلك علماء السوء الذين يؤوِّلون الدين لخدمة المستبد، يعينونه على ظلم الناس باسم الله، وهؤلاء المبدعين من "رجال الدين" هم الذين سبق لعبد الرحمان الكواكبي (1849-1902) مهاجمتهم لأنهم باعوا ضمائرهم، وجعلوا أنفسهم خدما وسدنة عند الحاكم المستبد وأعوانه. إن خطر هؤلاء على المجتمع أشدُّ وأعظم، لأن المستبد الذي يبرِّر استبداده باسم الدين ويستمد شرعية إمارته على رقاب العباد من خلافته المزعومة للإله فوق الأرض أو لرسول الله من بعده، يكون استبداده أقسى وأطول وإقناع الناس بإسقاطه أصعب. منذ أكثر من ستة قرون كتب ابن خلدون مقدمته الشهيرة وأفرد فيها فصلا عن مساوئ الجمع بين الإمارة والتجارة. بعده بأقل من قرنين، أي قبل نحو 450 سنة كتب قاضي فرنسي شجاع هو الفيلسوف إيتيين دي لابواسييه (1530-1563) مقالة أسماها "مقالة العبودية المختارة Discours de la servitude volontaire"، يشرح فيها تجبر الطغاة، ومما جاء في تلك الرسالة التي كتبها صاحبها وعمره لا يتجاوز 27 سنة: "الأمر يصعب على التصديق للوهلة الأولى، ولكنه الحق عينه: هم دوما أربعة أو خمسة يُبقون الطاغية في مكانه، أربعة أو خمسة يشدّون له البلد كله إلى أغلال العبودية، في كل عهد كان ثمة أربعة أو خمسة تصيخ إليهم أذن الطاغية، يتقرّبون منه أو يقرّبهم إليه ليكونوا شركاء جرائمه، وخُلاّن ملذاته، وقواد شهواته، ومقاسميه فيما نهب. هؤلاء الستة يدرّبون رئيسهم على القسوة نحو المجتمع، لا بشروره وحده، بل بشروره وشرورهم. هؤلاء الستة ينتفع في كنفهم ستمائة يفسدهم الستة مثلما أفسدوا الطاغية، ثم هؤلاء الستمائة يذيلهم ستة آلاف تابع، يوكلون إليهم مناصب الدولة ويهبونهم إما حكم الأقاليم، وإما التصرّف في الأموال، ليشرفوا على بخلهم وقساوتهم، وليطيّحوهم بهم متى شاءوا تاركين إيّاهم يرتكبون من السيئات ما لا يجعل لهم بقاء إلاّ في ظلّهم، ولا بعدا عن طائلة القوانين وعقوباتها إلاّ عن طريقهم. ما أطول سلسلة الأتباع بعد ذلك !". من يعيد قراءة رسالة لابواسييه، سيعتقد أنها كتبت للتَّو، لواقع شبيه بواقعنا في المغرب، مع فارق بسيط في عدد، فبدلا من أربعة أوخمسة أشخاص الذين كانوا يحيطون بالملك الفرنسي في القرن الخامس عشر، فإن من يحيطون اليوم بالملك في المغرب هم رجلان فقط، نعم رجلان فقط، واحد يتحكم في السياسية والآخر يدير المال والأعمال ويسيطر على الاقتصاد. ولكل واحد منهما زمرة من الأتباع والمتزلفين والمتملقين والمستعدين لرهن شرفهم ممن مازال عنده ذرة من شرف، و بيع ضمائرهم إن هم ملكوها، من أجل منصب أو لقب أو رخصة أو صفقة، أو حتى ابتسامة أو صورة للذكرى... إن جيش الأتباع هؤلاء هم الذين يزينون للمستبد استبداده، ويسوِّغون للشعب اسعتباده بدعوى الحفاظ على الاستقرار والتنعم بالأمن والأمان حتى لو كان ذلك في ظل الفقر والظلم، فهذه مقابل تلك. وكأن الشعب يتوسل منهم أمنه واستقراره مقابل تخليه عن المطالبة بنصيبه في الثروة وحقه في تقرير مصيره بنفسه. في رسالته السالفة الذكر، يطرح لابواسييه تساؤلا مهما عندما يقول: "كيف أمكن لهذا العدد الهائل من الناس أن يحتملوا أحيانا طاغية واحدا لا يملك من السلطان إلا ما أعطوه، ولا من القدرة على الأذى إلا بقدر احتمالهم الأذى منه، ولا يستطيع إنزال الشر بهم لولا إثارتهم الصبر عليه بدلا من مواجهته ؟". وما توصل إليه لابواسييه هو أن "ضعفنا نحن البشر كثيرا ما يفرض علينا طاعة القوة". فالشعوب هي التي تكبِّل نفسها بنفسها، والشعب هو الذي يقهر نفسه بنفسه، هو الذي يملك الخيار بين الرق والعتق، غير أن هناك من أخذ الغل ووضعه في رقبته وكبل به يديه. قبل لا بواسييه وقبل ابن خلدون، وصف القرآن هذه الحالة النفسية حين تحدث عن قوم فرعون: فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ. إنها الحرية. القيمة الجوهرية التي إذا ضاعت تبعتها بقية الأشياء، والذي يبقى من الحرية تفسده العبودية وتفقده معناه وجوهره. فالحرية والحق، هما جوهرا الوجود الإنساني، والمطالبة بهما هي التي جعلت الوعي الإنساني يتطور وينتج فكر التحرر والأنوار ويصنع النهضات ويقيم الحضارات. فهما قيمتان متلازمتان لا يمكن فصلهما، فلا يطالب بحقه إلا الإنسان الحر، ولا يعي حريته ويقدرها إلا من امتلك حقه. الحق لايناله إلا الأحرار، ولايطالب به إلا الأحرار، ولايستحقه إلا الأحرار، والحرية بلا حق مثل حرية الحيوان في الغابة، طليق لكنه جائع وخائف من غلبة القوي وضعيف يتوجس من مباغتة المخاطر. في نهاية رسالته يخلص لابواسييه إلى القول بان "الطغاة تُجنى من ورائهم حظوات، وتجنى مغانم ومكاسب، فإذا بالذين ربحوا من الطغيان، أو هكذا هُيِّىء اليهم، يعادون في النهاية من يؤثرون الحرية". والنتيجة تتلخص في أن الطاغية ينجح في أن يستعبد "رعاياه بعضهم ببعض"، إذ "لا يفلأّ الخشب إلاّ مسمار من الخشب ذاته"! وكما ختم لابواسييه رسالته، أصل إلى نهاية مقالتي بطرح نفس التساؤل الذي طرحه هو قبل أربعة قرون ونصف قائلا: "هل يعني القُرب من المستبد، في الحقيقة، شيئا آخر سوى البعد عن الحرية واحتضانها بالذراعين؟ إذا جاز التعبير؟ ".