يمسك الحاكم الأمة بواسطة الجيش ويتماسك الجيش بأمنه الخاص فيُقتَل من لا يقتُل. وهي بدورها تصعد لتشكل في قمة الهرم الاجتماعي شريحة صغيرة متفاهمة لا تزيد على أصابع اليدين عددا، تعمل بهذه الآلية وهي التي تفطَّنَ لها منذ القرن السادس عشر للميلاد «أتيين دي لابواسييه» فسجلها في كتابه «العبودية المختارة» عام 1562م فوصف «مجموعة الستة» التي تمسك بالبلد على النحو التالي: «إنني اقترب الآن من نقطة هي التي يكمن فيها، على ما أعتقد، زنبلك السيادة وسرها، ويكمن أساس الطغيان وعماده... إن من يظن أن الرمَّاحة والحرس وأبراج المراقبة تحمي الطغاة يخطئ. فلا جموع الخيالة ولا فرق المشاة ولا قوة الأسلحة تحمي الطغاة، والأمر يصعب على التصديق للوهلة الأولى، ولكنه الحق عينه: هم دوما أربعة أو خمسة يبقون الطاغية في مكانه، أربعة أو خمسة يشدون له البلد كله إلى مقود العبودية. في كل عهد، كان ثمة أربعة أو خمسة تصيخ إليهم إذن الطاغية، يتقربون منه أو يقربهم إليه ليكونوا شركاء جرائمه وخلان ملذاته وقواد شهواته ومقاسميه في ما نهبه. هؤلاء الستة يدربون رئيسهم على القسوة نحو المجتمع، لا بشروره وحدها بل بشروره وشرورهم. هؤلاء الستة ينتفع في كنفهم ستمائة يفسدهم الستة مثلما أفسدوا الطاغية، ثم هؤلاء الستمائة يذيلهم ستة آلاف تابع توكل إليهم مناصب الدولة ويهبون إما حكم الأقاليم وإما التصرف في الأموال ليشرفوا على بخلهم وقساوتهم وليطيحوا بهم متى شاؤوا، تاركين إياهم يرتكبون من السيئات ما لا يجعل لهم بقاء إلا في ظلهم، ولا بعدا عن طائلة القوانين وعقوباتها إلا عن طريقهم. ما أطول سلسلة الاتباع بعد ذلك! إن من أراد التسلي بأن يتقصى هذه الشبكة بوسعه أن يرى لا ستة آلاف ولا مائة ألف بل أن يرى الملايين يربطهم الطاغية بهذا الحبل». ويرى لابواسييه أن هذه السلسلة يمكن أن تمتد بالطول والعرض من خلال فتح الباب لكل مظاهر الحظوة: «من هنا جاء خلق المناصب الجديدة وفتح باب التعيينات والترقيات على مصراعيه. كل هذا يقينا لا من أجل العدالة بل، أولا وأخيرا، من أجل أن تزيد سواعد الطاغية. أما نوعية الناس التي تلتف حول الطاغية فيجب أن تكون من معدن خاص، يقول لابواسيييه: «ما إن يعلن حاكم عن استبداده بالحكم إلا والتف حوله كل أسقاط المملكة وحثالتها، وما أعني بذلك صغار اللصوص بل أولئك الذين يدفعهم طموح حارق وبخل شديد إلى أن يصيروا هم أنفسهم طغاة مصغرين في ظل الطاغية الكبير. هكذا الشأن بين اللصوص ومشاهير القراصنة: فريق يستكشف البلد وفريق يلاحق المسافرين. فريق يقف على مرقبة وفريق يختبئ. فريق يقتل وفريق يسلب». ويصف الكواكبي في كتابه «طبائع الاستبداد» هذا النموذج من الأعوان: «الحكومة المستبدة تكون طبعا مستبدة في كل فروعها، من المستبد الأعظم إلى الشرطي والفراش وكناس الشوارع. ولا يكون كل صنف إلا من أسفل أهل طبقته أخلاقا، لأن الأسافل لا يهمهم جلب محبة الناس وإنما غاية مسعاهم اكتساب ثقة المستبد. وهذه الفئة يكثر عددها ويقل حسب شدة الاستبداد وخفته، فكلما كان المستبد حريصا على العسف احتاج إلى زيادة جيش العاملين له واحتاج إلى الدقة في اتخاذهم من أسفل السافلين الذين لا أثر عندهم لدين أو وجدان واحتاج إلى حفظ النسبة بينهم بالطريقة المعكوسة وهي أن يكون أسفلهم طبعا أعلاهم وظيفة وقربا. إن العقل والتاريخ يشهد بأن الوزير الأعظم هو اللئيم الأعظم في الأمة». أو يقول الكواكبي عن وصف جو الطغيان وأشخاصه على النحو التالي: «حتى صار الفلاح التعيس يؤخذ إلى الجندية وهو يبكي، فلا يكاد يلبس ثوبها إلا ويتنمر على أمه وأبيه ولا يميز بين أخ وعدو»، «وقد يوجد منهم من لا يتنازل لقليل الرشوة ولكن لا يوجد فيهم من يأبى أكثرها»، «لا يستصنعون إلا الأسافل الأراذل ولا يميلون إلى غير المتملقين المنافقين». ترتعد فرائص المستبد من علوم الحياة مثل الحكمة النظرية والفلسفة العقلية وحقوق الأمم وسياسة المدنية والتاريخ المفصل والخطابة الأبية، وبالإجمال إن المستبد يخاف من العلوم التي توسع العقول وتعرف الإنسان ما هو الإنسان وما هي حقوقه، والمستبد يبغض العلم لنتائجه كما يبغضه لذاته. والعوام هم قوت المستبد وقوته يأسرهم فيتهلهلون لشوكته ويغصب أموالهم فيحمدونه على إبقاء الحياة، ويهينهم فيثنون على رفعته، ويغري بعضهم على بعض فيفتخرون بسياسته، وإذا أسرف بأموالهم يقولون عنه كريم، وإذا قتل ولم يمثّل يعتبرونه رحيما»، «من هم العوام؟ هم أولئك الذين إذا جهلوا خافوا وإذا خافوا استسلموا»، «يستدل على عراقة الأمة في الاستبداد أو الحرية باستنطاق لغتها وهل هي كثيرة ألفاظ التعظيم»، «والغالب أن رجال الاستبداد يطاردون العلماء وينكلون بهم، فالسعيد من يتمكن من مهاجرة دياره، وهذا سبب أن كل الأنبياء العظام عليهم الصلاة والسلام وأكثر العلماء الأعلام والأدباء النبلاء تقلبوا في البلاد وماتوا غرباء». ونعود إلى قصة تشاوسيسكو، فبعد تصريحه عن شجرة البلوط والتين، جمع الناس في صعيد واحد واستنفر الزبانية وسلَّح السيكوريتات، ثم خرج على الناس يخطب في الجموع: أليس لي ملك رومانيا وهذه الأنهار تجري من تحتي، أفلا تبصرون واستخف قومه فأطاعوه. ثم حدثت المفاجأة عندما صفر أحد الحاضرين استهزاء، فانكسر حاجز الخوف ولم ينفع رصاص القمع، وكانت شرارة تحولت إلى حريق كبير التهم كل نظام الطاغوت في ساعات، فقطع دابر القوم الذين ظلموا وقيل الحمد لله رب العالمين. وهو ما سيحصل في مصر ثم يلتفت الجمهور المنتصر ليقول الدور على من.. طبيبُ العينية في سوريا أم حامل العكازة السوداني العقيم الذي لم يرزق بغلام يورثه من بعده أم القذافي المضحك الذي وصفت مجلة «در شبيجل» الألمانية عائلته بلفظة عائلة غير ممكنة «Unmoegliche Familie» أم بوتفليقة الجزائري الذي يهيئ أخاه من بعده كما فعل كاسترو مع أخيه راؤول..? إن دومينو (Domino) عربيا سينهار واحدا تلو الآخر. ظاهرة الدومينو تشبه ما حدث في أوربا الشرقية وهي من علم الهندسة حين تكون التراكيب تعتمد على بعضها البعض، فإذا انهار الأول تابع طريقه بأعنف في إسقاط الثاني، وهذا ما حدث في حريق البوعزيزي في تونس، إذ أشعل تونس، وحريق تونس بدوره أشعل مصر، وحريق مصر سيحيل العالم العربي كله حريقا هائلا يلتهم مفاصل الأنظمة الطاغوتية. ويقولون متى هو؟ قل عسى أن يكون قريبا، يوم يدعوكم فتستجيبون بحمده وتظنون إن لبثتم إلا قليلا. سؤال كبير عن نهاية مبارك، هل سينتهي قتلا أم شنقا أم طريدا أسيفا مثل الشاه أم ضربا بالرصاص مثل تشاوسيسكو أم هريبة مثل بن شقي؟ ليس المهم هنا، فقد بلغ من العمر عتيا، قد يعيش في أحسن أحواله عشر سنين، فقد تجاوز الثمانية وهو ليس في أفضل سنوات صحته، بل عليلا، فاقد الذاكرة، عشي البصر، مطقطق المفاصل، مهدود الحيل مع سرطان وباركنسون.. ليس المهم هنا بل حين يقوم الناس لرب العالمين.