بين جبال الأطلس الكبير وجبال «صاغرو» بالأطلس الصغير، تقع الجماعة القروية «إميضر»، أو «عين الماء»، على بعد 30 كلم عن مركز مدينة تنغير. لا تبدو على المنطقة آثار للغنى رغم تموقعها على تراب أكبر منجم للفضة في شمال إفريقيا. مسالك ترابية تتحول مع هطول الأمطار إلى برك من الوحل، مستوصف بسيط لا يوفر أدنى العلاجات، وسكان تشي قسمات وجوههم الشاحبة بحيف طال أمده. «المساء» رافقت فعاليات جمعوية في قافلة تضامنية نحو جماعة «إميضر»، لتنقل واقع السكان فوق جبل «ألبان»، حيث يعتصمون منذ غشت 2011 بسبب خلاف مع «شركة مناجم إميضر». الساعة تشير إلى حوالي العاشرة صباحا بمركز إميضر. تتحرك القافلة التضامنية نحو جبل «ألبان»، أو جبل القناعة والصمود كما يسميه السكان. على بعد ثلاثة كيلومترات عن مركز إميضر في اتجاه مدينة تنغير، لوحة تشير إلى «معتصم ساكنة إميضر»، فوق قمة جبل ألبان على ارتفاع يصل إلى حوالي 1460 متر. بمحاذاة المدخل الرئيسي للمعتصم، تمركزت سيارتان للقوات المساعدة لحراسة بئر يزود منجم الفضة بالمياه. وفي الجهة الأخرى، شباب إميضر يتكلفون بتنظيم السير واستقبال الزوار. فوق قمة الجبل يبدو العلم الوطني وهو يرفرف في سماء إميضر، وبجانبه العلم الأمازيغي، الذي يبقى بالنسبة للسكان، تعبيرا عن هويتهم الأمازيغية. «هذه هي إميضر البؤس..إميضر الحيف..إميضر الظلم»، يقول محمد، ناشط في «حركة على درب 96 –إميضر». عيون محمد تحكي الحكاية، وتروي تفاصيل رحلة «سيزيفية» من دواوير أو قصور إميضر(أنو نييزم، تبولخيرت، إكيس، آيت ابراهيم، أغير، آيت امحمد، إزومكن) إلى قمة جبل ألبان. مسيرات يومية صعودا ونزولا من قمة الجبل، وأمل في أن يتقدم الحوار مع الشركة المستغلة لمنجم الفضة، ويعود المعتقلون إلى «تمازيرت» بعد أن تلبدت سماء الجماعة بغيوم الفقر والحيف والتهميش. منجم البؤس «شاءت الأقدار أن نزداد فوق أكبر منجم للفضة في شمال إفريقيا، لكنه مع الأسف تحول إلى أكبر منجم للبؤس والحيف والظلم»، يقول موحا، ناشط في حركة على درب 96، وهو يجلس فوق صخرة على قمة جبل ألبان، بينما تسافر عيناه نحو المنجم المختبئ بين جبال الفضة. حال موحا وباقي أبناء إميضر المعتصمين فوق جبل ألبان لا يشي بغنى أو يسر في الحياة. جلباب أسود من الصوف الخشن احتماء من البرد القارس، جسد أنهكه الفقر والحرمان، وفي الذاكرة..حكاية تأبى النسيان. قرية إميضر ينطبق عليها المثل الإنجليزي القائل «ليس كل شيء لامع فهو ذهب». ولا يبدو أن وجود المنطقة فوق أكبر منجم للفضة في شمال إفريقيا قد جعل الساكنة تستفيد من هذا الغنى الطبيعي. فبمقياس التصنيف الاستعماري، تدخل إميضر في خانة المغرب غير النافع، وبمقياس المغرب الجديد لا تعدو إميضر إلا أن تكون منطقة للاستغلال المنجمي..تصنع الثروة وتخلف من ورائها جيشا من المحتاجين. «نحن لا نطالب بالمستحيل..شغل، وخبز، واحترام للبيئة، وفوق كل هذا وذاك كرامتنا التي لن تتحقق إلا باستفادة المنطقة من الثروة الحقيقية التي يفيض بها منجم الفضة»، يعلق موحا وعلامات الحزن تنزف من وجهه كما ينزف جرح غائر لم يشأ أن يلتئم. مطالب الإيميضريين اجتماعية بالأساس، ولا تتجاوز ضرورة توفير الشغل لشباب المنطقة طبقا لكوطا تراعي مصالح السكان، وتطوير أساليب جديدة من أجل الاستغلال العقلاني للمياه المستعملة في المنجم، وترسيخ مفهوم التشاركية في استغلال الثروة المعدنية. تركنا موحا، وقد انكب على تقديم قضية الساكنة للمشاركين في القافلة، لنلتحق بحلقية احتجاجية عنوانها العريض «الإنصاف والمناصفة». تحلق السكان والمتضامنون حول بعضهم في شكل دائرة كبيرة. على اليمين وقف الرجال وهم يحملون لافتات والعلم والوطني، وفي أعناق بعضهم وشاح العلم الأمازيغ، وفي الجانب الآخر جلست النسوة وقد غطت وجوههن تفاديا لكشف ملامحهن من قبل الزوار. «إخوباخ واضو أورنوفي تمعيوين...أو نامي نغرا أريكات تيسعدار (حياتنا بئيسة ولم نجد من يساعدنا..مماطلات ولم نجد لمن نشتكي»..شعار إميضري يلخص معاناة السكان في معركتهم ضد «الظلم والحيف» كما يقولون. تحولت الحلقية إلى ما يشبه «أحيدوس احتجاجي» يردد فيه الرجال جزءا من الشعارات لترد النساء بالجزء الآخر. هنا فوق جبل ألبان لا فرق بين رجل وامرأة، حتى في أخذ الكلمة داخل حلقيات النقاش. «نشترك في أسباب البؤس...ظلم وحيف وتجويع لبني البشر...فلا داعي لظلم المرأة..فهي أم المعتقل»، يقول شيخ سبعيني في حديثه ل «المساء». ثورة العطش تركنا حلقية النقاش، في اتجاه تجمع للسكان بجانب الأنابيب المخصصة لنقل المياه من أحد الآبار إلى منجم الفضة. «إن الاحتجاج سيظهر أن القوة ليست شيئا مقارنة مع قوة الأخلاق، فقوة الأخلاق لا تنهزم أبدا»، يقول غاندي الذي كتبت مقولته هذه على أنبوب مياه صدئ يربط بين المنجم وبئر للمياه. قبل بضعة شهور قام الإيميضريون بوقف تزويد المنجم بالماء، حيث أحاطوا الأنابيب بسلاسل حديدية أعدت خصيصا لهذا الغرض، ليتكلف أبناء المنطقة بمراقبة المكان ليل نهار، بينما تتكلف القوات العمومية بحراسة البئر الموجود في سفح الجبل. في سطح خزان للمياه يقف شابان، وكأنهما في برج للمراقبة. أحدهما يحمل منظارا يدويا يراقب به محيط معتصم «إميضر» فوق قمة ألبان، «لأن الحيطة والحذر هما سيدا الموقف في هذا المعتصم، مادام أن الماء هو نقطة الصراع»، يجيب أحد حراس خزان المياه عن سؤال ل «المساء». يقول السكان إن الجماعة عانت من نقص حاد في مياه الشرب منذ 2011، بسبب ما اعتبروه استغلالا مفرطا للفرشة الباطنية من طرف شركة المعادن، مما ألحق أضرارا كبيرة بالزراعة المعيشية التي يعتمد عليها عدد كبير من السكان لتدبير معيشهم اليومي. ويعيد عسو، شيخ في الثمانينيات من عمره، نسج خيوط الخلاف مع شركة مناجم إميضر. ففي سنة 1986، يقول عسو، لجأت الشركة بعد استنزافها للفرشة المائية الجوفية في موقع استخراج الفضة، إلى التوجه نحو أماكن قريبة من السكان لتزويد المنجم بالمياه، مما أدى إلى احتجاج كبير للسكان ضد مشروع حفر بئر «تاركيط»، قوبل بتدخل أمني واعتقال بعض المحتجين، وحفر البئر رغما عن أنف الساكنة، حسب عسو. منذ ذلك التاريخ تطور الخلاف مع الشركة، ليكون شهر غشت 2011 نقطة تحول في معركة ساكنة إميضر، وتقرر خوض اعتصام مفتوح بعدما استنفدت جميع منافذ الحوار مع الجماعة القروية والشركة، ليعلنوها ثورة ضد العطش، بعدما شهدت الجماعة نقصا حادا في مياه الخطارات، وندرة المياه الصالحة للشرب، بسبب الضخ المفرط للشركة المستغلة لكميات كبيرة من المياه المستعملة في المنجم، حسب السكان دائما. ويشير ملخص تقرير مكتب للدراسات، تتوفر «المساء» على نسخة منه، إلى أن صبيب الخطارات عرف بين 5 يونيو 2004 و29 غشت 2005، وهي المدة التي تم فيها إعداد الدراسة، تراجعا مهما في صبيب المياه وصل إلى 61 في المائة بالنسبة لخطارة «توجديت» و26 في المائة لخطارة «تاكديمت»، و58 في المائة لخطارة «تاغية». بيد أن شركة مناجم إميضر عبرت، في رسالة جوابية على الأسئلة التي طرحتها «المساء»، أن «هذا الادعاء لا معنى له، إذ أن جميع الدراسات المنجزة من قبل مؤسسات مختصة ومستقلة أثبتت انعدام أي ارتباط بين الفرشة المائية التي يستغلها المنجم ومصادر تزويد شبكات السقي المحلية، ونبقى في هذا الإطار مستعدين ومنفتحين على أي خبرة لتقييم أثر أنشطتنا على الفرشة المائية المستغلة من طرف الساكنة». معتقل وقضية تاريخ الاحتجاجات التي قادتها ساكنة جماعة «إميضر» لم يخل من أحداث ما تزال عالقة بأذهان أبناء المنطقة. تدخلات أمنية، إصابات في عملية فك اعتصام 1996، واعتقالات وأحكام يصفها السكان بال»التعسفية» و»الكيدية». في المعتصم شباب وشيوخ يحملون ماضي وحاضر الجماعة. تحت سقف كوخ من القصب التقينا عائشة أبوح، أم المعتقل مصطفى أوشطوبان، المحكوم عليه بأربع سنوات حبسا نافذا. لا تتحدث والدة مصطفى إلا الأمازيغية، لكن تقلبات الدهر وعذاب الشوق لابنها المعتقل كانت أكثر لغات العالم تعبيرا. تحكي عائشة، وقد جلست القرفصاء بجانب طفلها الصغير، أن حيثيات الاعتقال تعود إلى فخ نصبه بعض المسؤولين، عندما كان مصطفى يعمل في المنجم، حيث أمروه بالتوجه إلى أحد المحلات لقضاء بعض الحاجيات، فوضعوا حوالي 18 غراما من الفضة في السيارة، ليقوموا باعتقاله بتهمة السرقة. تتوقف عائشة عن الحديث، وقد اغرورقت عيناها بالدموع وهي تنظر إلى طفلها المريض، في غياب مصطفى الذي شاءت الأقدار أن يقضي جزءا من حياته في سجن ورزازات. سافرت نظرات عائشة إلى ما وراء جبال إيميضر، حيث يوجد المنجم. اخترقت الذاكرة وعادت لتكمل حديثها بنبرة ملؤها الحزن العميق: «اتهموا ابني ظلما بالسرقة والتحريض على العصيان المدني... مصطفى مظلوم «. في معتصم إميضر تبرز حكايات الاعتقال، وفي ثناياه قضية نقشت على جبل ألبان. بجانب خيمة استقبال القافلة، حيث ينهمك الشباب في إعداد كؤوس الشاي وتقديم بعض الحلويات والفول السوداني «كاوكاو»، صادفنا علي (اسم مستعار)، شاب محكوم عليه بسنتين حبسا موقوف التنفيذ، بعدما قضى حوالي ثلاثة أشهر في السجن. يحكي علي أن «مقاولا تقدم بشكاية يدعي فيها أننا هاجمناه، وعزز شكايته بشهادة طبية تصل مدة العجز فيها إلى 45 يوما، وقد توصلت باستدعاء يوم 12 يوليوز 2012، حيث تم اعتقالنا وتقديمنا أمام أنظار المحكمة، لكن الغريب هو أنه تم تقديمنا على أساس شكاية المقاول لنجد أنفسنا أمام تهم تتعلق بالتحريض على الاعتصام وقطع الماء عن المنجم ومنع التلاميذ من الذهاب إلى المدرسة، وهي التهم التي أنكرناها بشكل قاطع». إنصاف ومناصفة يُرفع آذان الظهر على قمة جبل ألبان، لينصرف الرجال نحو المصلى في الهواء الطلق، بينما تنهمك النساء، داخل خيمة بجانب خزان المياه، في إعداد وجبة «الكسكس» البلدي، بالجزر واليقطين وبعض اللحوم البيضاء.»القناعة كنز المعتصمين، وتقسيم الأدوار هو بترول الإميضريين»، يقول شاب تعليقا على طبيعة العلاقة بين السكان. في المعتصم لا فرق بين رجل وامرأة، فالجميع معني بالقضية ولكل منهم دوره المحدد. لحلقيات النقاش أدبيات، سطرتها حركة على درب 96 -إميضر، وللمرأة الحق في إبداء رأيها مناصفة مع الرجل. تقول عائشة، وعلامات الفخر بادية عليها: «كما شاهدت في الصباح أخذت الكلمة لأحدثكم عن قضية إبني، وهذا اليوم ليس استثناء فالنساء لهن الحرية في التعبير، وتعودنا على أخذ الكلمة والدفاع عن أفكارنا بكل قوة على قدم المساواة مع أخي الرجل». بعد نهاية صلاة الظهر، توزع السكان في شكل حلقيات مصغرة، بينما انضم ضيوف الإيميضريين إلى الأكواخ وبعض البيوت الطينية المهددة بالسقوط على رؤوس المعتصمين. في هذه الأثناء يتكلف الرجال بتوزيع أطباق الكسكس على الضيوف والسكان، بينما تجلس النساء في الجزء الشمالي من المعتصم للسهر على توزيع الأطباق بشكل عادل على الجميع. «علينا إطعام الجميع بشكل عادل، فالمؤونة التي نتوفر عليها ندبرها بشكل معقلن وتضامني فيما بيننا، فنحن متحدون وهذا سبب قوتنا، فهناك معتقلون ومرضى، والفقر مشترك بيننا لكننا مع ذلك نتحدى هذه الصعاب مادامت تشكل الأسباب التي دفعتنا للخروج للاعتصام..نحن هنا ضد الظلم»، تقول عائشة وعلامات الصمود تملأ وجهها النحيف. سلاح أبناء إميضر هو التضامن القوي فيما بينهم، وتلاحم يضفي على الأجواء الباردة في المعتصم نوعا من الدفء الاجتماعي في انتظار ما سيأتي به قادم الأيام. لا يطالبون بشيء أكثر من الكرامة، وسبيلهم في ذلك، حسب السكان، اعتصام سلمي طال أمده لكنه أصبح مدرسة في الديمقراطية. هنا «ألبان»..جبل القناعة والصمود.
مقترحات الشركة «مرفوضة» و تراجع الإنتاج ب40% تقع الجماعة القروية لإميضر على بعد 30 كلم من مركز إقليم تنغير، ويبلغ عدد سكانها حسب إحصاء 2004، حوالي 5000 نسمة. تتكون إميضر من سبعة دواوير، موزعة على مساحة 140 كلم مربع، بينما يرتكز نشاط غالبية سكانها حول الفلاحة المعيشية والاقتصاد التضامني. بدأ استغلال المنجم في سنة 1969 لاستخراج ومعالجة معدن الفضة على الجماعة القروية لإيميضر، ويعتبر هذا المنجم من أكبر مناجم الفضة على الصعيد العالمي، والأكبر في شمال إفريقيا، بقدرة إنتاجية تصل إلى أكثر من 200 طن في السنة من الفضة الخالصة بنسبة 99%. لكن الاعتصام تسبب في خسائر تراوحت بين 30 إلى 40 في المائة من الإنتاج. تقدمت شركة مناجم إميضر، التابعة للهولدينغ الملكي «أونا»، بمجموعة من الاقتراحات لإيجاد حل للخلاف مع السكان، لكنهم رفضوا هذه الاقتراحات، وطالبوا في مجال التشغيل بتخصيص 75% من اليد العاملة لأبناء إميضر، بينما اقترحت الشركة تخصيص مناصب شغل قارة آنية لأبناء الجماعة و%20 من الفرص القارة مستقبلا في الشركة زيادة على تخصيص الشركات المناولة ل60% من مناصب اليد العاملة لشباب الجماعة عند كل عملية تشغيل. تؤكد الشركة أن مجموعة «مناجم» عرفت بمستواها العالي من حيث الاستثمار وخاصة في ما يتعلق بالمسؤولية الاجتماعية والبيئية. وفيما يتعلق بمنجم إميضر ومحيطه، فتستثمر الشركة، حسب الإجابات التي توصلت بها «المساء»، بشكل مهم في برامج خاصة للنهوض بالتربية والتعليم، والصحة وتحسين أوضاع المرأة. وبخصوص التشغيل، فيشغل المنجم حاليا ما لا يقل عن ألف شخص، منهم 75 في المائة ينحدرون من المنطقة والدواوير المجاورة. كما اقترحت المساهمة في خلق مركز للصناعة التقليدية بجماعة إميضر وتكوين شباب الجماعة على الحرف اليدوية وكذا تشجيع ومواكبة المشاريع المدرة للدخل وكذلك كل التعاونيات النسائية التي تعمل في هذا الإطار. وفي مجال الصحة، اقترحت الشركة إعادة تأهيل المركز الصحي لجماعة إميضر وتزويده بالمعدات والتجهيزات الضرورية والمساهمة في تكوين كفاءات في المجال الصحي لتلبية خصاص المركز الصحي لإميضر والمساهمة في تزويد هذا الأخير بالأدوية اللازمة، والمساهمة في بناء دار الأمومة وفي اقتناء سيارة إسعاف. كما عبرت عن استعدادها للمساهمة في تعزيز البنية التحتية القادرة على استيعاب التلاميذ في كافة المؤسسات التعليمية بالجماعة القروية لإميضر، حسب احتياجاتها وفق جدول زمني قصير، متوسط وبعيد المدى. إميضر - المهدي السجاري