إبراهيم الحجري قليل من المبدعين من تتحقق له موهبتا الشعر والتشكيل معا، وإذا ما حصل أن تجلت هاته الازدواجية، فإن أحد الجنسين لا بد أن يكون حاضرا في الآخر لدى المبدع نفسه، أي أن الحدود بين الاهتمامين تكون رهيفة، وتكاد تكون متداخلة، وهذا يجعل من التجربة الفنية تجربة متفردة، غالبا ما ينظر خلالها الفنان إلى العالم بمنظارين: الشعر والتشكيل، وهذا ما حصل ويحصل مع الشاعر والفنانة التشكيلية وداد بنموسى التي ابتدأت شاعرة، لكن سرعان ما تفتقت موهبتها الفنية في التشكيل، وأبت إلا أن تزاحم الاهتمام الشعري لديها، غير أن هذا الازدحام لم يؤثر على جمالية وسحر اللمسة الفنية، بل زادها عمقا وبلاغة، خاصة أن الشعر والتشكيل اهتمامان متقاربان، غالبا ما يرفد أحدهما الآخر ويسنده بالدفق التصويري والبلاغي، فنجد الشعراء أقرب إلى عالم الفن التشكيلي، من خلال حضور المعارض وتتبيع التجارب الفنية وتحولاتها، وتكتل الشعراء والتشكيليين في زمر متآلفة، حيث إن كثيرا من الشعراء والفنانين عبروا عن هاته التآلفية من خلال تآليف مشتركة، ومنجزات تجمع بين الشعر والتشكيل. ومن هنا جاءت تجربة الشاعرة والتشكيلية وداد بنموسى لتلغي الحدود بين الاهتمامين بطريقتها الخاصة. في بهو أحد فنادق الدار البيضاء، الموجودة في مركز المدينة، وتحديدا في تقاطع شارعين محوريين في الدارالبيضاء شارع الحسن الثاني وشارع الزرقطوني، حيث افتتحت، منذ الخميس 8 نونبر الجاري، معرضها التشكيلي، واجتمع حول تجربتها لفيف من الأدباء والصحفيين المغاربة والأجانب احتفاء بالتقاطع الجميل بين الشعر واللوحة، حيث مزجت وداد، في سمفونية بديعة، بين بلاغة القريض وسحر التصوير، فأنتجت لوحات بديعة تتغنى بالحياة في بعدها العميق. في هذا المعرض، تحتفي الصورة بالأصالة في تفاصيلها الباذخة، عبر استحضار مدينة الشاون «مدينة الشعر»، حيث تطل على الزائر من خلال أبوابها ونوافذها وأزقتها ، وناسها رجالا ونساء، بأزيائهم التقليدية المتميزة من خلال طبيعتها الخلابة، لقد اختارت الفنانة- في التفاتة جميلة ومعبرة- أن تعنون كل لوحة من لوحاتها بعنوان ديوان شعري لأحد الشعراء المغاربة، متجاوزة الأجيال الشعرية والحساسيات المختلفة... وليس من الغريب أن تحتفي الفنانة بجمال الطبيعة في لوحاتها، حيث تحضر المناظر الشفشاونية البديعة، وتطل من التصاوير غابات وشلالات ومنحدرات وجبال الريف متحاذية ومتقاربة، عازفة بذلك على وتر المشاعر الجياشة والأحاسيس الفياضة لشاعرة تتغنى بالطبيعة، وتتملى، بأسلوب صوفي بديع، نصوصها التي تفوق أي إبداع شعري. وبحكم أن الشاعر والفنانة بنموسى عاشت في طبيعة خضراء في طفولتها، فقد ظلت ذاكرتها حافلة بهذا السحر الخلاب لطبيعة الشمال الملازمة للفطرة التي لم تلوثها بعد المدنية، ولم تمتد إليها اليد الغاصبة لآلة الصناعة الكبريتية والغازية والفوسفورية على غرار باقي المدن الساحلية الجميلة مثل المحمدية والجديدة وآسفي التي بات يحتضر جمالها الطبيعي أمام المد الصناعي. ومثلما تحضر الطبيعة في قصائدها بشكل باذخ، فإنها كذلك، تحضر في لوحاتها، حيث يبدو واضحا الاهتمام البالغ بالطبيعة والاستناد إليها كمرجعية في استلهام تجربة نسج القصيدة، وصورها وتفاصيل محكيها المتدفق مثل الشلالات والوديان والبحار التي تصورها. تجسد هاته التجربة أيضا ذاكرة طافحة للشاعرة بلحظات الشعر والشعراء بحكم حضورها البارز في الملتقيات والمؤتمرات والمهرجانات والأسابيع الثقافية وتوقيعات الكتب وتكريم الشخصيات والاحتفاء بالمكان والزمان، وبحكم قربها أيضا من العاصمتين الإدارية والاقتصادية اللتين تعرفان تنظيم أغلب هاته الأنشطة، لذلك لم تشأ الفنانة التشكيلية تفويت هذا الزخم من خلال التقاط لحظاته الأكثر دلالة وعنفا وتأثيرا في حياة الشعراء وحياة القصيدة وحياة الجسد الثقافي، وهي ذاكرة تغني المشهد الثقافي وتوثق تفاصيله الدقيقة، التي لا يمكن للذاكرة أن تستحضرها أبدا. وقلما يتنبه المختصون بهذا الزخم من الوثائق الثقافية التي تضيع بمجرد ما ينتهي النشاط وإن وثق، بحكم توفر الآلة والتنكلوجيا، فهو يظل في الغالب محفوظا في أرشيف الجهة المنظمة، يتآكل ويبلى دون أن تستفيد منه الذاكرة الثقافية في تسليط الضوء على الاهتمامات وتحولات التجارب. ومن الشعراء الذين احتفت بهم الفنانة وداد بنموسى في معرضها، نجد عبد الكريم الطبال، وفاء العمراني، عبد الدين حمروش، إكرام عبدي، ثريا مجدولين، أمينة المريني، إدريس الملياني، سعيد كوبريت، صلاح بوسريف، حسن نجمي، فاطمة الزهراء بنيس، الخمار الكنوني، وزهرة المنصوري... يقول الروائي لغتيري عن هذا المعرض: «في هذا العرس الإبداعي الجميل تأبى وداد إلا أن تحتفي بالذاكرة الشعرية، فتستحضر أسماء حركت مشاعرنا ذات لحظة شعرية موغلة في الزمن، وخلفت في الذاكرة الفردية والجماعية أثرا حساسا. يبرز اسم الشاعر أحمد بركات جنبا إلى جنب مع عبد الله زريقة في نوع من الوفاء الأثير، يتوسطهماعبداللطيف اللعبي، مذكرا إيانا بموجة الالتزام التي تألق عطاؤها في فترة من فترات تاريخ المغرب الشعري». لقد تأتى للفنانة أن تستحضر، عبر هذا المحفل، كافة الحساسيات والأجيال، ولا تقف الشاعرة عند القصيدة الفصيحة، بل تتعداها إلى العامية ممثلة في شخص الزجال أحمد المسيح وآخرين... والأكيد أن لكل صورة ذاكرتها الخاصة والعامة، ولكل وقعها من خلال ما تختزله خليفاتها اللامرئية من مشاعر وأفكار وهواجس. كاتب وناقد مغربي