بعد الحادي عشر من شتنبر 2011 اخترع الأخصائيون في مكافحة الإرهاب نظرية سموها «نظرية الجار الحسن». وهي نظرية تسعى إلى شرح الاستراتيجية التي يعتمدها «الكاميكاز» (أصحاب العمليات الانتحارية) قبل اقتراف جرائمهم. هؤلاء «الكاميكاز» الذين يذوبون في المجتمع الفرنسي بكيفية لا يثيرون بها انتباه أحد. ويعتبر السجن أفضل مكان للوقوف على هذه الاستراتيجية في فرنسا، حيث توجد البؤر التي ينمو فيها التطرف يوما بعد آخر. اليوم انقلبت الأوضاع، ولم يعد هؤلاء السجناء، الذين يثيرون الانتباه بسلوكهم المشبوه وراء القضبان، هم المرشحون لارتكاب أعمال العنف. بيّن تقرير حديث حول الاختلالات التي ميزت التحقيق مع محمد مراح الأهمية الكبيرة التي تكتسيها المتابعة اللصيقة في السجن لبعض البروفيلات المرشحة لارتكاب العنف، أي أن خطورة محمد مراح الذي «تأسلم» وهو في السجن سنة 2008، كان من المفروض أن تحدد ابتداء من تلك الفترة بالذات. غير أن «الذئاب المنعزلة»، وهذا مصطلح يطلق على السجناء الذين لا يفطن إلى نواياهم في ارتكاب الإرهاب، أصبحوا يتفادون كل ما يثير الانتباه إليهم في الحياة اليومية داخل السجون الفرنسية المشهورة مثل فلوري ميروجيس، وفريسن، وليبوميط في مرسيليا. إنهم ينأون عن إسلام السجن «المرقع»، حيث «المسلم الحقيقي» هو ذاك الذي يطلق لحيته ويرتدي جلبابا ويسلم على «إخوته» بكيفية مسرحية، وهو يضع يده على قلبه. خطة المخابرات لقد أخذوا يتركون المجال واسعا لأولئك الدعاة السلفيين للانخراط بشكل صاخب في شرح «علمي» للقرآن، مما يسهل على المخابرات كشفهم ثم ضبطهم، حتى إذا ما أصبح لأحدهم نفوذ ملحوظ في عنبره، بادرت الإدارة بترحيله إلى جناح آخر لتخفيف التوتر، إلى أن يظهر إمام آخر فيبدأ بفعل ما فعله سلفه محاولا وضع العنبر تحت إمرته. إن أكثر السجناء تطرفا اليوم هم أولئك الذين يعملون كل ما في وسعهم كي يذوبوا في الكتلة البشرية التي تعج بها السجون، طمعا في عدم إثارة الانتباه إليهم. وهذه الظاهرة الجديدة، هي التي أصبحت تؤرق مضجع الإدارة السجنية والمصالح الاستخباراتية. يقول بهذا الخصوص فرهد خوسروخفار، أحد علماء الاجتماع قضى ردحا طويلا من وقته كباحث في مراكز السجون، إن «تطرفهم يتشكل خفية وفي سرية تامة، مما يجعله الأخطر إطلاقا لكونه الأصعب في الاكتشاف. فهذا النوع من السجناء يراهن على الاحتفاظ بمظهر شباب الأحياء الهامشية، حيث إنهم لا يقومون بالدعوة، ولا يشاركون في صلاة الجماعة، ولا يتحدثون إلى إمام السجن. ولكن يوجد من بينهم من يتهيأ بمجرد خروجه من السجن للمرور مباشرة إلى الفعل. وهذا ما يجعل كشف خباياهم شيئا في منتهى الصعوبة». تخفي مراح خلال تبادل أحاديث مطولة بين الشرطة وبين محمد مراح قبل إعطاء أمر الهجوم الأخير عليه، أكد بأنه تلقى ما يشبه إلهاما ربانيا وهو قيد الاعتقال. وعلق على هذا أحد كبار المسؤولين السابقين في الاستخبارات بقوله: «كان من المفروض أن تكتشف مسبقا نوايا محمد مراح، ولكنه استطاع أن يفلت من شاشات الرادارات، سواء لما كان في السجن أو لما كان يقوم بكل الموبقات في الأحياء الهامشية، مخالفا بذلك سلوك الإسلاميين المتطرفين. لقد بات هذا النوع من الأشخاص يشكل مشكلة مزمنة». دراسة مناخ السجناء منذ خمس عشرة سنة خلت، وبالتحديد منذ الاعتداءات التي وقعت في مدريد وفي لندن، شرعت إدارة السجون تهتم أكثر فأكثر بالبؤر التي ينمو فيها التوجه الإسلامي في السجون. اليوم، هناك أكثر من 800 سجين يوجدون تحت المراقبة، 200 منهم يفترض أنهم يشكلون خطورة حقيقية، لذلك يخضعون لمراقبة لصيقة. ومن بين هذا العدد الأخير، يوجد ما بين 60 و80 سجينا سبق لهم أن تورطوا في أعمال إرهابية. غير أن ما يهم ضباط المخابرات المتخصصين في دراسة حياة السجون، هو بالأساس، المناخ العام الذي يعيش فيه هؤلاء السجناء. فهنالك في فرنسا 66000 شخص، موزعين على 161 سجنا فرنسيا، ثلثهم ينتمون إلى الديانة الإسلامية أو لهم ثقافة إسلامية. وهذا العدد لا يرتكز على أي إحصاء عرقي محظور، وإنما على النظام الغذائي المتخذ في شهر رمضان. وقد يرتفع إلى 60 أو 70 بالمائة في بعض المؤسسات السجنية الضخمة بباريس ومرسيليا. انعدام برنامج لمواجهة التطرف لتحديد العناصر المتطرفة يلجأ المسؤولون إلى اعتماد معايير معينة كإطلاق اللحية وطريقة اللباس ومعرفة الكتب المقروءة مع الطرود المرسلة. ولكنهم مع كل هذا يحاولون اليوم التأقلم مع أنواع متفشية أخرى من التطرف. يقول في هذا الصدد هنري ماس المسؤول الحالي عن إدارة السجون:»علينا ألا نهمل أي صغيرة أو كبيرة. نحن ملزمون بمراقبة العلاقات ومراقبة المناخ العام، والتأكد مثلا من أن هذا السجين أصبح تحت تأثير ذاك. وهكذا دواليك». وبمجرد ما يطرأ تغيير مفاجئ في سلوك سجين ما، كأن يرفض المصافحة باليد، أو يبدي نفوره من الجنس اللطيف، كما حصل مؤخرا في سجن كليرفو، حيث أفهم أحد السجناء إحدى الحارسات بأنها غير مرغوب فيها، فإن الضوء الأحمر المنذر بالخطر يشتعل. كما أن الجولات اليومية التي يقوم بها السجناء في الساحات تمثل هي الأخرى ترموميترا مثاليا لقياس درجة الحرارة في السجن. وقد صور ذلك جاك أوديار بكيفية موفقة في فيلمه «النبي». من جهة أخرى، فإن فرنسا لم تضع أي برنامج لمواجهة التطرف على غرار ما فعلته الدانمارك، حيث تجتمع دائما عناصر من المخابرات مع السجناء لتهييء خروجهم من السجن وعودتهم إلى الحياة العادية. ويعتبر الاكتظاظ واحدا من أهم العوامل السلبية التي يواجهها المسؤولون. فالاحتكاك والمجاورة اللصيقة يسهلان تفشي اعتناق الإسلام. وفي هذا الصدد يتساءل فرهد خسرخفار: «كيف يمكن مراقبة ثلاثة سجناء محشورين في زنزانة معدة لاثنين، يضطر فيها أحد الثلاثة إلى التمدد كي يترك فرصة الوقوف للاثنين؟ ويضيف في هذا السياق كرستوف ماركيس، الكاتب العام لإدارة السجون: «رغم كل ذلك، علينا ألا نرخي أيدينا ونستسلم، علينا أن نحرم لبس الجلباب خارج الزنزانة، كما ينبغي أن نحرم الصلاة الجماعية في الساحات المخصصة للتجول». أما جواكيم بوييو، المدير السابق لسجن فلوري ميروجيس، وسجن فريسن، والذي أصبح اليوم نائبا اشتراكيا وعمدة لمدينة ألونسون، فيقول: «يجب على اللائكية أن تسترجع حقوقها في السجن. فحين تقوم الإدارة بغض الطرف عن بعض الانتهاكات الصادرة في حق الحياد الذي تتأسس عليه الجمهورية، وحين تلجأ إلى مطابقة برامجها اليومية مع مواقيت الصلاة، طمعا في تهدئة الوضع لربح شيء من السكينة، فإنها لا تزيد في الطين إلا بلة، ذلك أن الطلبات ذات الصبغة الدينية والسلوك ذا التوجه الإسلامي لا يزدادان إلا تفاقما واستفحالا». ويتساءل حول هذه النقطة حسن شلغومي المسؤول على مسجد درانسي في السين سان دوني: «هل من المعقول أن يترك الحبل على الغارب لبعض السجناء حتى يسمحوا لأنفسهم بنعت زملائهم ممن ليسوا مسلمين بالكفار، مما يعني تهديدا صريحا بالقتل؟». التشبث بالهوية كثيرا ما يفسر نجاح الخطاب السلفي وراء القضبان بالخصاص الحاصل في عدد المرشدين الإسلاميين.وهذا واضح تماما إذا ما قارنا 151 مرشدا إسلاميا ب 600 مرشد كاثوليكي، و265 بروتستانيا. في هذا الصدد يقول المرشد الكاثوليكي لسجن فلوري ميروجيس بكثير من الصراحة: «عندما لا يتلقى السجناء إلا قلة قليلة من الزوار المثقفين، فإنهم يكونون أكثر حساسية للإنصات إلى خطاب الملتحين، سيما إذا كانوا في مقتبل العمر ولا يعرفون عن الإسلام شيئا، ولا يحظون من أسرهم إلا بقليل من الدعم. إنهم حيال هذه الوضعية يتمسكون بما يعرض عليهم معتقدين بأنهم يمتلكون الحقيقة المطلقة لمجرد أنهم ينطقون ببعض الحروف العربية.وفي هذه الحالة، يكون مرورهم إلى الطرف الآخر تعلقا بالهوية أكثر منه تعلقا بالدين». أما بالنسبة لكثير من السجناء، فإن المسألة برمتها تتعلق بالبحث عن الحماية. فالإمام أو الأمير، كما يسمونه عادة، يحلان محل «القائد» في الحياة العادية، حيث إن هذا القائد يمكن أن يوفر السجائر، ويهب النقود، ويملأ كل من يلوذ به بالطمأنينة والأمان. أما المرشدون الرسميون الملزمون بالتجول في الدهاليز، وخوض مناقشات طويلة في الزنازن، والإشراف على صلاة الجمعة، فإنهم ليسوا دائما على عجلة من أمرهم ما دامت أتعابهم إذا ما اشتغلوا في الأوقات كلها تقدر ب 750 أورو شهريا فحسب. ومحاولة منها لسد جزء من هذا الخصاص، صرحت كريستيان توبيا وزيرة العدل بأنها ستخصص 30 منصبا إضافيا في السنتين المقبلتين. غير أن الباحث فرهد خسر خفار يظل متشبثا بتشاؤمه حين يقول إن «الغالبية العظمى من هؤلاء الأئمة لا يفهمون شيئا عن طبائع الشباب المعتقل في السجون، وليست لديهم أدنى فكرة عن نمط عيشهم أو طريقة تفكيرهم. إنهم مجرد رجال دين مغاربيين أكثر منهم فرنسيين. لذلك، فالسجناء يكنون لهم في أحسن الأحوال احتراما غامضا دون أن يكلفوا أنفسهم عناء التوجه إليهم بحديث أو غيره. وقد سبق لي ذات يوم أن التقيت مرشدا مسلما فأكد لي بأنه طوال عشرين سنة قضاها في الإرشاد لم يسبق له أبدا أن التقى بسجين متطرف. ألا يحملك هذا التصريح الغريب على أن تنام واقفا؟» أما امحمد هنيش، المسؤول عن الجمعيات الإسلامية المتحدة في السين سان دوني، فيعرف جيدا هؤلاء المنحرفين الصغار الذين سبق لهم أن مروا من السجن، وهو يفسر ذلك قائلا: «بعضهم يلجأ إلى الإسلام ليبرر تهميشه وانحرافه. إذ كلما سمعوا خطابا متطرفا ازدادوا له احتراما، وفي اعتقادهم أن كل من لا يستعمل في حديثه كلاما عنيفا شخص خال من الرجولة». وحسب رأي لويس كابريولي، المسؤول السابق في مكافحة الإرهاب والمستشار الحالي لشركة جيوس، فإن المراقبة ينبغي أن تستمر بعد الخروج من السجن. إذ يقول:»من بين الأشخاص الذين يخرجون من السجن وقد رجعوا إلى التدين بالإسلام أو اعتنقوه لأول مرة، هنالك فئة يستقيم سلوكها، وفئة أخرى تعود مجددا إلى الانحراف، وفئة ثالثة تسقط مباشرة في الإرهاب». إن الدعوة السلفية لم تنتشر بعد في سجون القاصرين، بيد أن الضوء البرتقالي قد أخذ يشتعل في بعض المرات منذرا باقتراب ذلك. وكما يقول بعض الأخصائيين:كلما ظهر طلب في هذا المجال أعقبه عرض يأتي على وجه السرعة. * عن جريدة «لوفيغارو» الفرنسية
انتشار الإسلام داخل السجون الأوروبية يثير هلع السلطات تشير التقارير والأبحاث الواردة عن السجون الفرنسية في السنوات الأخيرة إلى أن الإسلام أصبح الديانة المهيمنة في السجون، وأن المسلمين - فرنسيين كانوا أم مهاجرين من بلدان إسلامية- يشكلون الكثافة الأولى بالسجون، وأنهم بصدد تركيز «مملكتهم» -على حد تعبير أحد المرشدين المسلمين- في السجون الفرنسية. وعلى الرغم من عدم توفر إحصاءات دقيقة؛ لأنه يُمنع في فرنسا إحصاء الأشخاص على أساس انتمائهم الديني، ولكن الأسماء العربية ولون البشرة وعدم أكل لحم الخنزير، كلها مؤشرات تدل على أن أغلب السجناء من المسلمين، على الرغم من أنهم لا يمثلون إلاّ 10 بالمائة فقط من نسبة سكان فرنسا، أي أنهم يشكلون أكبر نسبة من نزلاء السجون، كما تتزايد نسبتهم في معظم الدول الأوربية، ويُعدّ هذا مؤشرًا على وجودهم في قاع هرم القارة. ويشكل المسلمون ما بين 50 بالمائة و80 بالمائة من المساجين في السجون القريبة من المراكز الحضرية، التي توصف بأنها ذات حساسية بالغة. ويتراوح متوسط أعمار المسلمين المسجونين ما بين 18 و35 عامًا، معظمهم من سكان الضواحي الفقيرة والمهمشة. ويعاني المسلمون من السجناء من تمييز واضح من جانب إدارة السجن، التي يتهمونها بتفضيل المسيحيين واليهود من السجناء، ففيما لا يحق للمسلمين من السجناء الحصول على اللحم الحلال، يحق لليهود الحصول على اللحم الكاشر المذبوح على الطريقة اليهودية، كما يُمنع المسلمون في بعض السجون من أداء صلاة الجمعة، بينما يستطيع معظم النزلاء الكاثوليك على سبيل المثال حضور القداس مرة في الأسبوع. وعلى الرغم مما يعانيه المسلمون في السجون الفرنسية من قهر وعنصرية، فلا يمر أسبوع واحد إلاّ ويحضر سجين مسيحي إلى إدارة السجن لمطالبتها بتوفير اللحم الحلال له، لأنه أصبح مسلماً. كما لوحظ أن عدد معتنقي الإسلام من المسيحيين يزداد في السجون الفرنسية بصورة مطردة، مما جعل السلطات الفرنسية توجه إنذاراً من نوع جديد لمواجهة تيار الأسلمة والدعوة إلى الإسلام في السجون. ومما يؤكد قوة تيار الأسلمة داخل السجون الفرنسية تقرير أعدته المخابرات الفرنسية، حذرت فيه من انتشار الإسلام داخل السجون الفرنسية. وتطرقت المخابرات العامة في تقريرها، الذي يرسم ملامح خريطة العمل الدعوي الإسلامي داخل السجون، إلى المدارس التي ينتمي إليها الدعاة؛ إذ أوضح تقريرها أن جماعة التبليغ والدعوة التي أتت من الهند وباكستان تُعد صاحبة النفوذ الأوفر بين سائر التيارات الأخرى داخل السجون الفرنسية؛ مشيراً إلى أن بداية نشاط الجماعة في البلاد بدأ منذ عام 1972. ترجمة: أحمد المرزوقي