من أصعب المشاكل التي يواجهها المرء عندما يتناول الصراع الدموي الدائر حاليا في سورية وتطوراته حالة التشنج التي تسود مواقف الأطراف المتحاربة في الجانبين، الحكومي والمعارض على حدّ سواء؛ فالحلول السياسية مرفوضة وكذلك الجلوس إلى مائدة الحوار، والنتيجة مقتل المئات يوميا من المتقاتلين والأبرياء، والمزيد من الدمار. السيد نبيل العربي، أمين عام الجامعة العربية، وبعد بيات صيفي امتد لأشهر، خرج علينا يوم الأربعاء بدعوة جميع الأطراف الحكومية والمسلحة إلى الالتزام بهدنة خلال عيد الأضحى الذي يبدأ نهاية الأسبوع المقبل. الدعوة إلى الهدنة، في صيغتها الأصلية صدرت عن السيد الأخضر الإبراهيمي، مبعوث الأممالمتحدة، وقررت الجامعة العربية ركوبها للإيحاء بأنها ليست عاطلة عن العمل، وما زالت ملتزمة بأداء دورها في البحث عن مخارج لهذه الأزمة الدموية. ومن المفارقة أن السيد العربي، الذي أكد يوم الأربعاء أنه لا يوجد حل سياسي للخروج من هذه الأزمة، يعود اليوم متحمسا لمقترحات السيد الإبراهيمي وداعما لها، ولكنه لم يقدم أي مقترحات حول الآليات التي يمكن استخدامها للوصول إلى هذه الهدنة، مثل الدعوة إلى عقد اجتماع طارئ لوزراء الخارجية العرب، أو إرسال وفد منهم إلى دمشق للبحث عن هذه الآليات، طالما أن الجامعة تتطلع إلى العودة إلى دور الوسيط، وليس الطرف مثلما هو عليه الحال حاليا في هذا الصراع. المشكلة أن بعض أطراف المعارضة السورية، خاصة تلك التي تعيش خارج البلاد، سارعت إلى رفض هدنة السيد الإبراهيمي باعتبارها تصبّ في مصلحة النظام، وتوفر له مهلة لالتقاط الأنفاس، وإعادة تموضع قواته وإمدادها بالأسلحة والعتاد، ولم يتغير هذا الموقف المتسرّع إلا بعد إعلان المجلس الوطني السوري، وربما بإيعاز من البعض، القبول بالهدنة والترحيب بها. اللافت أن نوعا من التعب بدأ يظهر على بعض أطراف الصراع والقوى الداعمة لها سياسيا وعسكريا، وتبلور هذا بشكل واضح باتساع دائرة القبول بمهمة السيد الإبراهيمي، ودعواته إلى حل سلمي سريع للأزمة، وتركيزه بالذات على القوى الإقليمية المتورطة فيها لطلب مساعدتها. عندما ذهب سلفه كوفي أنان إلى طهران قامت قيامة الأطراف العربية والغربية ولم تقعد، لأنه ارتكب خطيئة كبرى بزيارة هذه الدولة الداعمة للنظام السوري، وبلغت المأساة ذروتها عندما رفضت دول مجموعة أصدقاء سورية دعوته إلى اجتماعها الذي انعقد في باريس في شهر يوليوز الماضي، ففهم الرجل، أي أنان، الرسالة وقدّم استقالته قرفا واستياء. السيد الإبراهيمي زار إيران، وعرّج على بغداد، ثم ذهب إلى الرياض وبيروت، وأخيرا حطّ الرحال يوم الأربعاء في دمشق، ولم نسمع اعتراضا واحدا من الدول العربية، المتطرفة في مساعيها إلى تأجيج الصراع السوري، على زيارته للعاصمة الإيرانية وبحثه كيفية التوصل إلى حلّ سلمي مع قيادتها. الهدنة التي يقترحها السيد الإبراهيمي هي المبادرة الوحيدة، واليتيمة، المطروحة حاليا لعلاج هذه الأزمة، بعد أن اختفت جميع المبادرات، العربية منها والغربية، ولذلك يجب أن توفر لها كل الفرص للنجاح، لسبب بسيط وهو أن نجاحها يعني إنقاذ حياة ألف إنسان على الأقل، وهؤلاء بشر من لحم ودم في نهاية المطاف. النظام لن يحتاج إلى هذه الهدنة لتعزيز قواته، أو نقل أسلحة وذخائر إليها، لأنه يملك الطائرات والدبابات في مواجهة معارضة مسلحة بأسلحة خفيفة، جرى تضخيم قواتها وتصويرها على أنها جيوش عظمى، الأمر الذي أعطى انطباعا مضللا عن طبيعة المواجهات الدائرة بينها وبين جيوش النظام؛ لكن الشعب السوري، الذي نسيه الكثيرون، هو الذي يحتاج إلى هذه الهدنة لعلاج جرحاه، ودفن شهدائه، والبحث عن طعام لأطفاله، وترميم جزء مما تهدم من منازله، خاصة أن موسم الشتاء القارس بات على الأبواب. نشعر بالألم ونحن نرى الكثير من المحرّضين على استمرار الحرب في الجانبين، يتجاهلون مأساة الشعب السوري الذي يدفع الثمن غاليا من دمه وأمنه واستقراره ولقمة عيشه، خاصة الفضائيات التي لا ترحم. ومن الواضح أن استشهاد أكثر من أربعين ألف إنسان، وتشريد أكثر من أربعة ملايين في الداخل والخارج، وتدمير ما قيمته مائة مليار دولار من البنى التحتية لا يشفي الغليل. الهدنة المقترحة ليست فرصة لالتقاط الأنفاس فقط، كما أنها لا تعني وقف القتل في عطلة العيد ثم استئنافه بعدها، وإنما هي خطوة لتجريب شيء آخر غير القتل والدمار، وإعادة التذكير بشيء اسمه الأمان والنوم شبه الطبيعي، والحياة لأيام بدون جنازات ومقابر وعويل وفقد الأحبة وفلذات الأكباد. لعل الهدنة المقترحة، إذا نجحت، تؤدي إلى إفساح مساحة للعقلاء والحكماء في الجانبين، السلطة والمعارضة، ليقولوا كلمتهم، ولعلها أيضا تكرّس ثقافة الحوار المنقرضة، وتفتح الطريق لهدنة أخرى، أو تمديد الهدنة الحالية لأكثر من مرة. البديل للهدنة وحقن الدماء، ولو لأيام معدودة، هو استمرار القتال، وبمعدل مائتي شهيد يوميا على الأقل، معظمهم من الأطفال والنساء، فمن كان يتوقع أن تتحول هذه الانتفاضة المشروعة، التي انطلقت سلمية، إلى ثورة مسلحة، توفر الغطاء للنظام لكي يستخدم كل ما في جعبته من أسلحة فتّاكة في محاولة لسحقها وتدمير مدن بالكامل فوق رؤوس أصحابها؟ السيد الإبراهيمي أطلق صرخة تحذير لا يجرؤ على إطلاقها إلا شخص مثله يتمتع بمظلة المنظمة الدولية، عندما قال إن الأزمة السورية قد «تأكل الأخضر واليابس» في المنطقة، وإنها لا يمكن أن تظل محصورة في الحدود السورية وقد تمتد إلى الجوار الجغرافي، ولا بد من علاجها فورا قبل فوات الأوان. العلاج الذي يتحدث عنه السيد الإبراهيمي هو الحلّ السياسي، بعد أن ثبت فشل الحل العسكري، الذي لجأ إليه النظام والمعارضة في حسم الأمور في ميادين القتال. والحلّ السياسي يعني التنازل من علياء العناد والغرور القاتل، وتقديم تنازلات من الطرفين لإنقاذ الشعب السوري وحقن دماء أبنائه بأسرع وقت ممكن. نكتب بتفاؤل، ونحن الذين شككنا في نجاح مهمة الإبراهيمي منذ اللحظة الأولى لبدئها، لأننا ننحاز إلى الشعب السوري ونشعر بمأساته، بكل أطيافه دون أي تمييز، فهؤلاء أهلنا، وكانوا في مقدمة المضحّين بحياتهم وأرضهم من أجل قضايا الأمة، ولا أحد يستطيع أن يزايد عليهم في وطنيتهم وعروبتهم وكرامتهم، وفتح بيوتهم وقلوبهم لكل إنسان مظلوم طالبا للأمان والمساعدة من دول الجوار، والقائمة تطول. النظام سيذهب لا محالة، ولكن سورية ستبقى، فكم أنظمة مرت على هذا البلد، وكم إمبراطوريات قامت فيه أو احتلته، وفي نهاية المطاف كان النصر حليف الشعب. اتقوا الله في هذا الشعب الوطني الطيب الكريم الشريف.