كتب أحد الكتاب المغاربة المرموقين على أعمدة أسبوعية مغربية، معلقا على الاضطرابات التي هزت العالم العربي والإسلامي احتجاجا على الفيلم المسيء إلى الرسول الأعظم «براءة المسلمين»، أنه «يحب» الرسول، صلى الله عليه وسلم، لكنه لن يُلقي حجرا باسمه. خلف هذه الصورة المشوهة، يختفي إسلام المحبة والسلام وتعوضه صورة «عنف المسلمين» الذي يدينه الكاتب (على نحو ملتوٍ) برفضه إلقاء حجر واحد لأن هذا العصر (بشكل باطني) عصر التواصل الخطابي وليس عصر القوة. وفي مِثل هذا الكلام مَثل الذبابة التي تحط دائما على الجرح. ولربما أراد كاتبنا بعموده هذا تقديم الاعتذار المغلف بالشعور بعقدة الذنب لما حصل من قتل في حق الدبلوماسيين الأمريكيين في ليبيا أو المظاهرات التي رفعت الشعارات المعادية لأمريكا. وتندرج هذه النوعية من الكتابات، ليس من طرف كاتبنا وحده ولكن من طرف كتاب مغاربة وعرب كثر، تحت ما يسمى ب«إعلام الابتذال الثقافي» الذي يعنَى بإثارة النعرات والشبهات الفاقدة للأمانة الأخلاقية، لأن الغرض منه ليس توعية القارئ بحقوقه الإنسانية أو التاريخية أو السياسية أو الاجتماعية أو الاقتصادية، أو فضح عقود الديكتاتورية الشمولية ورفض التسلط والظلم والتمييز والفقر والبطالة وما تحت خط البطالة والجوع والضغط المتزايد لنزع فتيل القنبلة الموقوتة من أقصى جزء في روح المواطن العربي والإسلامي القابل للانفجار في كل لحظة وفي كل مكان، أو هيمنة الاستبداد الإمبريالي على حريات وحقوق وثروات العالم العربي والإسلامي بدعم الديكتاتوريات العربية والإسلامية، أو تعرية همجية الغزو العسكري الغربي المباشر في كل من العراق وأفغانستان، أو إدانة منطق القوة النازي الإسرائيلي في فلسطينالمحتلة،.. يأتي «إعلام الابتذال الثقافي» فقط لتكريس «نظرية الاستدماج» (بالمفهوم السيكولوجي) لإلصاق التهمة بأنفسنا ومحاولة تنميطها. تفكيك عقدة الذنب انزعج كاتبنا واعتبر «إرهابا» تظاهرَ الآلاف من المسلمين الغاضبين أمام السفارات والقنصليات الأمريكية في كل أرجاء العالم العربي والإسلامي رفضا لإساءة فيلم «براءة المسلمين» الذي نعتبره، حقا، تزويرا فاحشا وإهانة متعمدة لنبي الإسلام محمد، صلى الله عليه وسلم. واستفاد تنظيم القاعدة -الذي خلقته أمريكا، التي كانت تنوي غزو أفغانستان قبل السوفيات، لمحاربة الغزو السوفياتي لأفغانستان- من الفوضى خارج القنصلية الأمريكية في بنغازي، ليهاجمها. وبشكل مأساوي، ذهب ضحية هذا العمل الإجرامي والإرهابي أربعة مسؤولين أمريكيين أبرياء، من بينهم السفير. وبكل حزم وصراحة، نرفع صوتنا عاليا لنقول مع الجميع إنه لا مبرر على الإطلاق لمثل هذه الأعمال الوحشية والمشينة. لكن ما دخل الإسلام في هذا العمل الإرهابي؟ كل ما حصل أن أمريكا هي التي تسببت في مقتل مواطنيها عندما قررت تصفية أسامة بن لادن بعقلية «الكاوبوي» في باكستان ولجأت إلى نفس العنتريات لقتل أبو يحيى الليبي في اليمن في يونيو الماضي بالهجوم عليه بطائرة بدون طيار في خرق واضح لكل المعاهدات والقوانين والمواثيق الدولية. وسرعان ما أدانت هذا العمل الإرهابي على القنصلية الأمريكية وزيرة الخارجية الأمريكية هيلاري كلينتون والرئيس باراك أوباما، وأكدا في نفس الوقت أن منع فيلم «براءة المسلمين» يتنافي وحرية التعبير التي يعتبرها القانون الأمريكي حقا أساسيا من حقوق الإنسان الأمريكي ولا سبيل إلى تقييده. هذا الكلام دعاية رخيصة لأن أمريكا تمنع وتقيد حرية الرأي والتعبير ولا تحميها دائما، كما أنها لا تحترم المواثيق الدولية التي تنص على احترام حرية التعبير. وإذا رجعنا مليا إلى الخلف، وبالضبط إلى حقبة الماكارثية (نسبة إلى جوزف مكارثي)، تبين لنا أنها فترة سوداء في تاريخ الولاياتالمتحدةالأمريكية. وقد وصل الأمر في تلك الحقبة إلى مطاردة المثقفين والمفكرين والكتاب، وإلى حد مداهمة وتفتيش مراكز الأبحاث والجامعات والمدارس وإقصاء مشاهير هوليود (شارلي شابلن وأورسن ويلز وآرثر ميلر). واستطاعت الحملة المكارثية تضييق الخناق على المشتبه فيهم وطردهم من مناصبهم أو الزج بهم في السجن أو تنفيذ عقوبة الإعدام (جوليوس روزنبرغ وزوجته إيثيل)، رغم الشهادات المزيفة والاتهامات الخطيرة والملفقة التي كانت توجه إليهم طبقا لنظرية وهم «المؤامرة الكبرى» (يقصد بها الشيوعية) التي تتهدد البلاد. واستعادت الماكارثية اليوم أجواءها الهستيرية والجنونية باستبدال «الخطر الأحمر» (الشيوعية) ب«الخطر الأخضر» (الإسلام) بتمرير «قانون المواطنة» الذي سن بعد أحداث 11 شتنبر 2001 لنشر الذعر والخوف بين مسلمي أمريكا. ويستعين مكتب التحقيقات الفيدرالي الأمريكي في ملاحقة المسلمين الأمريكيين ب«إعلام الابتذال الثقافي» لتأليب الرأي العام ونقل ملكية الجاسوسية إلى كل أفراد الشعب الأمريكي، والتنصت على المكالمات الهاتفية ومراقبة التجمعات (بما فيها المساجد) لجمع المعلومات الشخصية. وهذه التدابير النازية تفشي مشاعر الكراهية والتنميط الديني وتصدر صورة مشوهة عن الإسلام والمسلمين، فضلا عن تجاوزاتها القانونية بمنع قناة «المنار» اللبنانية من البث على التراب الأمريكي وحتى الأوربي، والممارسات اللاأخلاقية أثناء التحقيقات بتوجيه أسئلة إلى المسلمين تتعلق بمعتقداتهم وممارساتهم الدينية. كما أن الكونغرس الأمريكي يدرس حاليا إمكانية إسقاط الجنسية الأمريكية عن حامليها من الأكاديميين والكتاب وأساتذة الجامعات الذين ينتقدون السياسات الأمريكية الخارجية. حرية التعبير وميثاق الأممالمتحدة وفقا للمادة 19 من الميثاق الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، فإنها تنص، أولا، على أن: لكل إنسان (في العالم وليس في أمريكا وحدها) الحق في اعتناق آراء دون مضايقة، وثانيا: لكل إنسان الحق في حرية التعبير؛ والأهم أن المادة 20، الفقرة 2 من الميثاق الدولي للأمم المتحدة، «تحظر أية دعوة إلى الكراهية القومية أو العنصرية أو الدينية التي تشكل تحريضا على التمييز أو العداوة أو العنف». إذن، الحكومة الأمريكية مجبرة، طبقا للمواثيق الدولية، على أن تحترم الفقرة 2 من المادة 20 باحترام حرية التعبير وحرية الممارسة العقائدية للمسلمين الأمريكيين وملزمة بمنع فيلم يروج صراحة للكراهية القومية والعنصرية الدينية ويشكل تحريضا على التمييز والعداوة والعنف. ولنصدق للحظة أن أمريكا بالفعل تحترم حرية التعبير ومعها الدول الغربية الديمقراطية، ولنقارن الآن، من زاوية أخرى، معايير النفاق المزدوج الذي تمارسه الدول الغربية عند التعامل مع حرية التعبير. إذا كانت الدول الغربية تهتم وتحمي وتغار حقا على حرية التعبير فلماذا سنّت، في العقود الثلاثة الماضية، قوانين تجرم أي خطاب أو أي كتابات تشكك في الحسابات الرسمية للمحرقة اليهودية (الهولوكوست)؟ لماذا تفتخر الدول الغربية بسجلها الداعم لحرية التعبير والتسامح وتسجن المنشقين عن وجهات النظر الرئيسية القائلة بمقتل ستة ملايين من يهود أوربا على يد هتلر؟ لماذا يقبع في السجن إلى يومنا هذا المؤرخ البريطاني «دفيد إيرفين» لا لشيء إلا لأنه تجرأ مرة وقال إن «غرف الغاز» المزعومة خلال الحرب العالمية الثانية «خرافة»؟ ولماذا خرقت كندا الأعراف الدولية وسلمت الناشر «إرنست زوندل» إلى ألمانيا سنة 2003، حيث لا يزال في السجن إلى حدود كتابة هذه السطور متابعا بتهمة «التحريض على الكراهية»؟ ألا تحق متابعة صاحب فيلم «براءة المسلمين» بنفس التهمة؟ لماذا هذا النفاق المزدوج؟ وماذا عن خبير «غرف الغاز» الألماني «غرمار رودولف» الذي أثبت، بالحجة القاطعة، استحالة وجودها وتوبع بتهمتي «التحريض على الكراهية العنصرية» و«التشهير»؟ لماذا، إذن، لا يحق للمحاكم الأمريكية أن تلاحق مخرج فيلم «براءة المسلمين» بنفس التهمة؟ ومن منا لم يسمع بقضية محاكمة الفيلسوف الفرنسي روجيه غارودي عن مؤلفه «الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية»؟ ألم توجه إليه الحكومة الفرنسية تهمة «معاداة السامية» و«إنكار الهولوكوست»؛ وبعد ذلك، بوقت قصير، أدين وحكم عليه بالسجن مع وقف التنفيذ لعدة سنوات، وبغرامة مالية قدرها 40000 دولار؟ ألم تصدر المحاكم الفرنسية قرارا يمنع بيع الكتاب بل ويصر على مصادرته من المكتبات الفرنسية وحظر طباعته مرة ثانية؟ هذه الحالات السابق ذكرها لا تعتبر، بأي حال من الأحوال، فريدة من نوعها؛ فمن بين ضحايا حرية التعبير في أمريكا الكاتب المشكك في مسألة الهولوكوست «آرثر بوتز»؛ وأستاذ العلوم السياسية «نورمن فلكنشتاين» الذي فضح كذبة «المحرقة» في كتابه «صناعة الهولوكوست» وكلفه ذلك كرسيه في جامعة «دوبول» العريقة ليجد نفسه متسكعا في الطرقات يعيش على هبات الأصدقاء؛ وعاش نفس العواقب البرفسور الأمريكي «وورد تشرشيل»، مدرس علوم الأنثربولوجيا في جامعة «فرمانت»، عندما صنف الإبادات الجماعية للهنود الحمر في القارة الأمريكية بأسوأ جريمة في التاريخ. ولا يتسع المجال هنا لعرض لائحة مفصلة لكل الأكاديميين الأوربيين الذين سجنوا أو أبعدوا من مناصبهم أو أرغموا على أداء غرامة، ونكتفي بذكر «سيغفريد فربيك» من بلجيكا و«غاستون أرماند أمودريز» و«يورعن غراف» من سويسرا و«غونتر ديكرت» و«هانس سميت» و«فريديريك توبن» من المانيا، و«بيدرو فاريلا» من إسبانيا. أما القضية التي تأبى أن تتوارى عن الأنظار فهي محنة الباحث وأستاذ الأدب الفرنسي «روبرت فوريسون» الذي سُلب حقه في التدريس بجامعة السوربون واقتيد إلى أروقة المحاكم الفرنسية ليكون شاهدا على ما يدور في دهاليزها من ظلم واحتقار وللدفاع عن نفسه بسبب كتاباته الصريحة والبيانات بشأن «مسألة المحرقة»، وتحمل على مر الزمن عناء عدة هجمات من قبل البلطجية اليهودية، بما في ذلك اعتداء واحد على الأقل كاد أن يودي بحياته. ولعل أكثر الحالات غرابة في ملاحقة الأكاديميين هي حالة أستاذ علم الاجتماع «روبرت هيب»، من جامعة أوسنابروك بألمانيا؛ ففي عام 1998 توصلت محكمة ألمانية إلى أن الدكتور هيب قد خرق القانون من خلال «كلمة واحدة» وردت باللغة اللاتينية في حاشية كتابه المكون من 544 صفحة، وصف بها الإبادة المنهجية لليهود بالغاز السام في الحرب العالمية الثانية بكونها «fabula» (أسطورة). وقضت المحكمة بأن هذه «الكلمة» تشكل «تشهيرا» و«قذفا يسيء إلى ذكرى اليهود الموتى»، وأن هذه «الكلمة الوحيدة» يمكنها «زعزعة الثقة في القضاء الألماني الذي يضمن لليهود العيش بسلام وحرية في ألمانيا». وأمرت المحكمة بجمع وتدمير جميع النسخ من الكتاب. وإذا كانت «كلمة واحدة» تسيء إلى ذكرى الموتى ويُنفذ في حق كاتبها الحكم بالسجن والطرد من الجامعة وحرق كل كتبه، فلماذا لا يحق حرق فيلم بطول ساعتين تقريبا كله قذف وتشهير وشتم وتزوير في حق نبي الإسلام؟ نحن لا نحاول هنا كسب عطف كاتبنا المغربي المتميز الذي يريد أن يعلمنا المحبة والسلام واحترام حرية التعبير ونبذ العنف، ولا نريد منه أن يفصح لنا عن موقفه من حجم الدمار الذي حل بكل من العراق وأفغانستان (قرابة مليوني قتيل من الأبرياء، أطفال ونساء ومدنيين)، وتشتيت الباكستان وتمزيق اليمن والصومال وتهجير ستة ملايين من الفلسطينيين من أراضيهم بالقوة وقتل من تبقى منهم بوحشية تتحدى التعبير أو الوصف. لكننا نطلب منه التفضل بالإجابة عن هذا السؤال: متى تفوق «إرهاب» الحجر على جرائم إرهاب وجبروت آلة الحرب العسكرية الأمريكية الجهنمية؟