بلغ الحساب الثأري والطويل الذي نشب بين تركيا وسوريا في السنة الأخيرة ذروته، عندما سقطت ثلاث قذائف سورية أطلقت على ما يبدو نحو قوات الثوار في جنوب شرق تركيا فقتلت خمسة مواطنين. بعد أن تبين بأن هذه كانت قذائف من الجيش السوري وليس من الثوار، أمر أردوغان برد النار، وفقا لشدة العدوان السوري، فاستخدم الجيش التركي قاذفات هاون بعيار 155كلم، أطلقت نحو منطقة تل عبيد، على مسافة نحو 10كلم من الحدود، وقتل خمسة من رجال الجيش السوري. وبالتوازي زادت تركيا عدد الجنود المرابطين قرب الحدود. ومع أن الحساب اليومي «تَوازن»، لكن القذائف التي أطلقتها القوات التركية نحو سوريا لم يكن بوسعها ولم تقصد أن تسوي الحساب الطويل. وحتى النقاش في البرلمان التركي، الذي أقر فيه بأغلبية الأصوات للحكومة بإرسال قوات إلى الأراضي السورية، ليس حاليا سوى إعلان نوايا وليس إعلان حرب. فحتى عندما تقرر الحكومة التركية الهجوم على الأراضي العراقية، فإنها لا تطرح المسألة للبحث في البرلمان في كل مرة من جديد. في ظروف أخرى، يحتمل ألا يجر إطلاق قذائف هاون سورية على تركيا رد فعل عنيف من جانب أنقرة. ولكن بعد إسقاط الطائرة التركية في شهر يونيو، التي لا تزال ملابسات سقوطها قيد التحقيق (الرواية الأخيرة وغير المؤكدة تلقي المسؤولية على القوات المضادة للطائرات التي توجد في القاعدة الروسية في سوريا)، فإن تركيا لا يمكنها أن تمر مرور الكرام وتكتفي باعتذار سوري آخر أو بوعد بتحقيق معمق، مثلما وعد وزير الإعلام السوري. الحدود بين تركيا وسوريا حارة ومتفجرة. على مقربة من نقاط العبور تنتشر في الجانب التركي قوات برية كثيرة، وإلى جانبها وحدات من المدرعات والمدفعية تضم صواريخ أرض جو وأرض أرض. وإذا قررت تركيا العمل بالقوة ضد سوريا فيوجد تحت تصرفها جيش هو السادس في حجمه في العالم. هذا الجيش مزود بأكثر من 2.200 طائرة ومروحية، وقادر بلا صعوبة على مواجهة الجيش السوري الممزق، ذي التسليح القديم، والذي تتميز قدراته العسكرية بالوهن في المعركة التي يديرها ضد الثوار. ولكن اجتياحا تركيا واحتلالا للأراضي في سوريا، حتى بتبرير النية لإقامة «مناطق آمنة»، من شأنه بالذات أن يخدم بشار الأسد ويخدم روسيا، التي امتنعت إلى الآن حتى عن شجب إطلاق النيران السورية على الأراضي التركية. وكانت تركيا أوضحت في الماضي أنها لا تستبعد تدخلا عسكريا في الأراضي السورية، ولكن فقط في ظل تحقيق إجماع دولي. حتى الآن لم ينجح أعضاء مجلس الأمن في توفير إجماع كهذا بسبب الفيتو الروسي والصيني. من هنا أيضا اللغة الحذرة التي يتخذها الناطقون الرسميون الأتراك مثل إبراهيم كالين، مستشار أردوغان، الذي أوضح أن أنقرة لا تعتزم الخروج إلى حرب ضد سوريا، وكذا أردوغان نفسه الذي قال إن دولته غير معنية بالشروع في حرب مع سوريا، ولكنها مصممة على الدفاع عن حدودها ومواطنيها. تركيا، التي اشتدت نبرتها المناهضة لسوريا، والملجأ الذي تمنحه لعشرات آلاف اللاجئين السوريين والقاعدة اللوجستية التي توفرها لقوات الثوار جعلها السند الأساس للثورة، لا تزال غير مستعدة بأن تستلقي على الجدار من أجل الدول الغربية. تدير تركيا في الأشهر الأخيرة معركة مضرجة بالدماء ضد النشاط الإرهابي لنشطاء حزب العمال الكردي، والتي يقتل فيها كل يوم جنود أو مدنيون أتراك. هذه الحرب تعتبر في تركيا حربا عادلة، لأنها ترمي إلى إحباط «التهديد على الأمن القومي»، ومن هناك أيضا استعداد المعارضة للتعاون مع الحكومة. ولكن الوضع بالنسبة إلى سوريا مختلف، فقد أعلن رئيس الحزب الجمهوري المعارض، كمال كلتشدرولي، أنه لن يؤيد طلب الحكومة إعطاءها الإذن بالعمل في الأراضي السورية لأن «مثل هذا الإذن معناه إعلان الحرب». ولكن هذه المعارضة لم تمنع أردوغان، الذي يحتل حزبه 326 مقعدا في البرلمان مقابل 135 من أعضاء الحزب الجمهوري، من أن ينال الإذن بإطلاق القوات نحو سوريا. هذه سنة حرجة لأردوغان أيضا، الذي يدير حملة سياسية تاريخية لتغيير الدستور التركي. التاريخ المقرر الذي حدده للجنة متعددة الأحزاب التي انتخبت لصياغة الدستور هو نهاية السنة الحالية. وإن كانت بعض المواد حظيت بالإجماع، فإنه لا تزال هناك ألغام عديدة أمام اللجنة. وفي العام 2013 ستجرى انتخابات للسلطات المحلية، وبعد سنة من تلك الانتخابات الرئاسية، التي سينتخب فيها الجمهور الرئيس مباشرة وليس البرلمان. هذه فترة سياسية حرجة، من شأن حرب مع سوريا أن تسفر عن نتائج غير مرغوب فيها بالنسبة إلى أردوغان الذي يسعى إلى أن يكون الرئيس التالي لتركيا. في ضوء جملة الكوابح الكفيلة بأن تمنع الحرب بين تركيا وسوريا، لا تزال هناك علامة استفهام كبيرة بالنسبة لنوايا سوريا. فإن كان تطور قبل بضعة أشهر تقدير بأن فتح جبهة مع إسرائيل كفيل بأن يساعد الأسد، ويصرف الانتباه عن المعركة الداخلية نحو المعركة مع العدو الخارجي، فإن هذا التقدير يوجد الآن بالنسبة لتركيا لأن أنقرة، التي تقررت حتى الآن كعدو للنظام السوري بصفتها «تخدم مصالح الغرب والصهيونية»، هي عدو «مناسب» الحرب ضده كفيلة بأن تحدث الانعطافة التي يتطلع إليها الأسد. المبادرة إلى استفزازات تجر تركيا إلى داخل الأراضي السورية كفيلة بأن تؤدي إلى تدخل علني ومباشر لأصدقاء سوريا، وتحويل المعركة الداخلية إلى معركة دولية تمنح الأسد مهلة إضافية. وفي نفس الوقت، رغم الصداقة الشجاعة مع روسيا، الصين وإيران، التي أعلنت بأن حربا في سوريا هي حرب ضدها، ليس في يد الأسد ضمانة بأن يوافق هؤلاء الأصدقاء على إرسال الجنود للدفاع عن أراضيه. .خبير إعلامي