لا شيء جديد بالمرة. من «صور مسيئة»، إلى «حرق للقرآن»، إلى «فيلم مسيء»، يتكرر السيناريو نفسه بين الحين والآخر، ولا أحد يتعلم. فبينما يهرول آلاف من الشباب الإسلاميين إلى التظاهر أمام سفارات الدول الغربية مهددين ب«الويل والثبور وعظائم الأمور»، تندلع حرب التصريحات بين «فسطاطيْ» الإسلام والعلمانية، فنسمع من يسب المسيحيين ويصفهم بالأنجاس، ونسمع في المقابل من يعتبر ما حدث «مؤامرة» إمبريالية وقعنا في حبائلها، أو من يؤكد على «تفاهة» الفيلم وحماقتنا التي أوردتنا موارد التهلكة. على أن القضية بالنسبة إلي ليست في الفيلم وتفاهته أو المؤامرة ودهائها. القضية هي مركزية «صراع الهوية» الذي ينتظر أتفه الأسباب لينفجر، المرة تلو المرة. فما، ومن، وراء انقسام عالمنا إلى هويات (دينية، ثقافية، إثنية، حضارية) متصارعة؟ ولماذا، وبشكل متزايد، لم يعد العدو هو الاستعمار أو الرأسمالية، بل «الآخر» العقيدي أو الثقافي أو الإثني؟ جذور الهوية حين كتب كارل ماركس أن الرجل الأسود هو مجرد رجل أسود وأنه «لا يصبح عبدا إلا في ظروف معينة»، كان يقدم إلينا أحد المفاتيح الأساسية لتفكيك الهوية على أساس مادي وتاريخي، فليست الحقيقة البيولوجية المتمثلة في سواد المرء هي سبب عبوديته، تماما كما أن الحقيقة البيولوجية المتمثلة في حمل وإنجاب المرأة ليست هي سبب اضطهادها. الاضطهاد على أساس الهوية العرقية أو الجنسية ليس حتمية بيولوجية، وإنما تصبح الحتميات البيولوجية ذات مغزى اجتماعي في ظل شروط تاريخية معينة يصنعها البشر بوعي أو بنصف وعي، أو تتشكل -وهو الاحتمال الأغلب- من وراء ظهورهم. كذلك الأمر، إلى حد كبير، بالنسبة إلى الهوية الدينية والثقافية، وذلك رغم أن تلك الأخيرة أساسها الوعي البشري وليس الصفات الطبيعية كما هو الحال بالنسبة إلى الهوية العرقية والجنسية. الهوية الدينية تتشكل في التاريخ. وكل ما يتشكل في التاريخ يمكن أن يتغير في التاريخ. فإن تصورنا أن ظروفا اجتماعية واقتصادية وثقافية ما بلورت وحدة بين جماعة من البشر وميزتهم عن الجماعات البشرية الأخرى على أساس عقيدي، فإن ظروفا أخرى يمكنها أن تعزز هذه الهوية الناشئة، أو تضعفها، أو تغير من أولويتها لحساب هويات أخرى، أو حتى تبدد تأثيرها تماما. الخلاصة أن الحقيقة الموضوعية المتمثلة في وجود اختلافات جنسية، عرقية، إثنية، عقيدية، وثقافية بين البشر لا تترجم نفسها آليا في صورة وعي يقوم على التمييز بين «نحن» و«الآخرين»، وعي قد يصل إلى حد اعتبار «الآخرين» هم العدو، إلا في ظروف تاريخية معينة قابلة للتغيير. والأهم من ذلك أن تحول اختلاف الهويات إلى أساس للصراع بين البشر ليس أمرا حتميا، وإلا لقبلنا فكرة أن الإنسان شرير بطبعه يسعى إلى الصدام مع «الآخر» من حيث المبدأ وبغض النظر عن الظروف التاريخية. الهوية والغرب إذا كان ما أقوله صحيحا، فإن السؤال عن الأسباب التاريخية وراء صعود «الهوية الإسلامية» وانحسار الهويات «القومية» و«الوطنية»، ناهيك عن «الإنسانية»، يصبح مشروعا. كذلك فإن السؤال عن سبب اتخاذ كثير من «الهويات» الإسلامية الصاعدة شكل صدامي مع «الآخر»، أيا كان، يصبح أساسا لتحديد «الاستراتيجية المضادة» المطلوب تبلورها للوقوف ضد استعار التناحر بين «المستضعفين في الأرض» بسبب اختلاف معتقداتهم. ورغم اعترافي بأنه لا توجد «هوية إسلامية» واحدة عبر الزمن وباختلاف الجماعات، فإني أظن أن هناك جذرا واحدا لصعود «الهويات الإسلامية» الحديثة في العصر الإمبريالي. على خلاف الحال في كثير من الرأسماليات الأوربية، تشكل الوعي الحديث في بلداننا، التي كانت في السابق موطنا للخلافة الإسلامية، في سياق جدال مادي وفكري عنيف مع «الغرب الاستعماري». كل المذاهب الحديثة، وكل المذاهب القديمة التي اضطرت إلى تجديد نفسها، ولدت كإجابات عن أسئلة مثل: لماذا نحن متخلفون وهم متقدمون؟ كيف نواجه الاستعمار؟ كيف نحافظ على «هويتنا» في مواجهة «المد الغربي»؟ وما هي العلاقة بين «الأصالة» (الإسلامية) و»المعاصرة» (الغربية)؟ لا فرق هنا بين إسلامي وعلماني؛ لا فرق بين حسن البنا وطه حسين، أو بين سيد قطب وزكي نجيب محمود. الكل طرح الأمر، بالأساس، من زاوية العلاقة بالغرب. ولا عجب في ذلك، فبالفعل كانت الإشكالية الجوهرية عند نهايات القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين هي تفكك العالم القديم -متمثلا في دار الخلافة الإسلامية- في سياق الضغط الإمبريالي المتنامي. فعلى خلاف الرأسماليات الأوربية الأسبق إلى التحديث، كان العامل الخارجي -صعود الرأسمالية عالميا- هو المحفز الأكبر وراء تفكيك دولة الخلافة المهلهلة في إسطنبول، واندماج المجتمعات الإسلامية الشرقية في النظام الرأسمالي العالمي. وقد هزت هذه الصدمة الخارجية أول ما هزت الإنتلجينسيا الإسلامية (فئة المثقفين وقادة الرأي)، وذلك حتى قبل أن يصل أثرها إلى حد خلق طبقات اجتماعية جديدة تحمل رؤية تقدمية، من الزاوية الموضوعية، للتغيير والتعامل مع إشكاليات العالم الحديث. فولدت في هذا السياق إجابات فوقية ومشوهة لإشكالية الاستعمار/التحديث الناشئة؛ إجابات قدمها مثقفون يصارعون تحديثا لم يخلق بعد طبقات حديثة متماسكة راسخة وقادرة على تحويل الأفكار إلى واقع اجتماعي ومادي. الهوية الإسلامية الحديثة في هذا السياق وُلدت الهوية، أو الهويات، الإسلامية الحديثة. وكانت أهم تياراتها حتى أواخر ستينيات القرن العشرين هي السلفية غير الجهادية، سواء في صورتها الأكثر تشددا عقيديا والأقل انخراطا في السياسة (الجمعية الشرعية وجماعة أنصار السنة)، أو في صورتها الأقل تشددا عقيديا والأكثر انخراطا في السياسة (جماعة الإخوان المسلمين). ففي ظل زلزال التحديث المدفوع من الغرب، «الكافر لكن المتقدم»، ومع تداعي الحلول «الوطنية الليبرالية» ممثلة في حزب الوفد، انفجرت طاقة الكراهية والتشكك في التحديث الرأسمالي في أوساط أبناء المدن (الأفندية) من متوسطي الحال والفقراء القادمين لتوهم من وقراهم وبيئاتهم المحافظة، فبدؤوا ينجذبون إلى مذاهب تطرح -ببساطة- أن «الغرب» خطر و»التحديث» خطر وأن العودة إلى «الإسلام الصحيح» والسعي إلى إحياء دولة الخلافة هما الحل لاستعادة كرامة الأمة الإسلامية وتحقيق سيادتها للعالم. وهكذا تحولت إشكاليتا الإفقار وتحطيم البنى الاقتصادية والاجتماعية التقليدية الناجمتين عن التحديث الرأسمالي إلى «مسألة هوية دينية»، وتحولت القضية من مقاومة الاستغلال في صورته الحديثة على أساس من وحدة كل المستغلين في إطار مشروع تحرر إنساني-طبقي، إلى حفاظ على الذات في مواجهة آخر ديني-ثقافي متجانس هو الغرب وأذنابه في الداخل. وكان من شأن الاصطفاف الجديد-القديم على أساس الهوية الدينية أن يطمس الخلافات داخل كل معسكر، بحيث أصبح المسلم الغني والمسلم الفقير، وفوقهما الحاكم المسلم، جميعا على جانب واحد من المتاريس طالما ارتضوا مشروع عودة الخلافة. وفي المقابل، وُلدت أسطورة الغرب الموحد الذي لا يعرف الصراع بين مستغِلين ومستغَلين أو بين مضطهِدين ومضطهَدين. نجحت الرجعية الإسلامية، في صورتها السلفية والإخوانية، في فرض منظور هوياتي للصراع أعاد تعريف مفاهيم مثل «الذات» و«الآخر»، و«الصديق» و»العدو»، بحيث لم يعد تحرير الإنسان، من حيث هو إنسان، هو الأساس والمرجعية والأمل، بل أصبحت وحدة الأمة الإسلامية وتحقيق العزة للمسلمين -بما يتضمنه هذا، على الأقل، من تمييع لتناقضات جوهرية مثل الاستغلال الاقتصادي والاضطهاد الديني والثقافي- هي الغاية التي لا تعلوها غاية. «القاعدة» والبديل جرت في النهر مياه كثيرة بعد تحرر البلدان الإسلامية من الاستعمار التقليدي. ومن واجبنا أن نعترف بأن جناحا من الإسلاميين طوّر كثيرا، خلال العقود الفائتة، خطابه الإسلامي في اتجاه أكثر «ليبرالية» وأقل تشددا في مسألة التحديد الهوياتي للصراع وأطرافه، لكن دون القطع الكامل مع الجذر الهوياتي-الديني لرؤيته للعالم، ربما لأن هذا غير ممكن أصلا. لكن التطور الأهم في العقود الأخيرة، ربما، كان ظهور من مدوا خط النزعة الهوياتية على استقامته بتكفير كل وأي «آخر» باعتباره مصدرا للبلاء في الدنيا وهدفا للعذاب في الآخرة. أقصد بهذا صعود التيارات التكفيرية الجهادية التي تعتبر أسامة بن لادن وتنظيم القاعدة مثلها الأعلى والأوحد. لا شك أن هذه التيارات تجد جذرها الطبقي هي الأخرى في أبناء الطبقة الوسطى والوسطى الدنيا وبعض حرافيش المدن المسحوقين تحت وطأة تناقضات التحديث الرأسمالي المجهض في صورته الليبرالية الجديدة. لكن ما يميز هؤلاء عن إخوتهم المنتمين إلى التيارات السلفية غير الجهادية هو أنهم كفروا بالنزعة الإصلاحية، التوافقية، التدرجية التي تبناها حسن البنا وتلاميذه. بالقطع يرجع صعود السلفية الجهادية التكفيرية إلى الوحشية غير المسبوقة للرأسمالية في طبعتها الليبرالية الجديدة، لكنه يرجع كذلك إلى أسباب سياسية-فكرية تتمثل في ما اعتبره الجهاديون فشلا من جانب ما يمكن أن يطلق عليه «الحركة الإسلامية المعتدلة» في مواجهة تحديات الصراع مع الأعداء في الداخل والخارج. الخطر الذي تمثله الحركة الإسلامية الجهادية التكفيرية كبير، ليس كما يروج البعض لأن إرهابهم يساوي في أثره التدميري على الإنسانية أثر إرهاب الإمبريالية والصهيونية وأنظمة الاستبداد الليبرالي الجديد (الجهاديون أضعف كثيرا من أن يدمروا العالم كما يدمره مالكو السلطة والثروة)، ولكن لأنهم يملؤون فراغا في عالم يعاني من الظلم والاضطهاد ولا يجد في الحلول الإصلاحية المعتدلة دواء ناجعا. العالم -أقصد عالم الأكثرية من المظلومين والمضطهدين- يئن بحثا عن حل راديكالي ثوري للتناقضات التي تخلقها الرأسمالية. ع المنا العربي بالتحديد يعاني معاناة مزدوجة من إفقار الليبرالية الجديدة ووحشية الإمبريالية الجديدة وحليفتها الصهيونية. فإن لم يوجد أمل ومخرج، لن يجد ملايين الشباب من بديل إلا حمل السلاح وراء راية رجعية هوياتية ترى كل آخر عدوا وتقسم المظلومين على حساب انتماءات دينية أو ثقافية لا ذنب لهم فيها. والنتيجة: الرد على الازدراء الإمبريالي المتمثل في نشر صور أو إنتاج فيلم مسيء إلى الإسلام والمسلمين بعنصرية مضادة تضع مسيحيي العالم، بل وكذلك الشيعة والبهائيين وكل مختلف، في موضع العدو «النجس» الذي ينبغي القصاص منه انتصارا للإسلام! المسألة، إذن، هي «البديل». والثورات العربية، والثورة المصرية في القلب منها، تمثل نقطة البداية لبلورة هذا البديل. فهاهي قوة النضال الجماهيري من أسفل تفرض نفسها، وهاهو شعار «عيش، حرية، عدالة اجتماعية» يلخص مطالب مستضعفي بلادنا.. بقي فقط أن تتبلور راية سياسية تكثف هذه الشعارات في رؤية وهدف واستراتيجية عمل، حتى لا تتبدد طاقة الجماهير هباء.