كعادته، في المرات القليلة التي يخرج فيها المفكر المغربي عبد الله العروي عن صمته، يقول أشياء نكاد لا نجد لها نظيرا بين ركام الأقوال في زمن الخواء المعرفي. في خرجته هاته، يفصح العروي عن مواقفه وتصوراته حول قضايا كثيرة تنطلق من أسلوبه في الكتابة وتتوقف طويلا عند مفاهيم الحداثة والتقليد والموضوعية وكتابته عن عهد الحسن الثاني والاقتصاد والليبرالية... لتنتهي عند قضايا التربية واللغة وأمور أخرى. مواقف العروي هاته عبر عنها في أجوبته عن أسئلة الزميل الباحث إدريس كسيكس والباحثة فاضمة أيت موس. - هل إعادة خلق التقليد يتوافق ومفهوم الحداثة؟ < أتساءل حول ما إذا كانت إعادة تسمية شيء ظهر في مجتمع آخر تشكل وسيلة لتفادي سؤال الغايات بالنسبة إلى كافة المجتمعات الحالية، وليس فقط مجتمعاتنا. إننا ننتقل من لغة إلى أخرى كما طفل يلعب لعبة يستبدل فيها المكعب الأخضر بآخر أصفر فيعتقد أنه قام بفعل ينتهي بنتيجة. إننا حين نبذل مجهود إعادة التسمية نقتنع بأننا أدركنا المفهوم، والحال أننا بعيدون عن إدراكه. الخطر لا يكمن في إعادة تسمية الأشياء، بل في تركيز الجهد وضياعه على حساب التأمل في الشيء نفسه. - وما رأيك في استمرار هذا الزوج المفاهيمي (تقليد/حداثة) في الخطابات السائدة في المغرب؟ < لم أحتفظ من ذلك الأمر إلا بوجه واحد، وهو أن التقليد- الذي هو في الحقيقة نوع من التعليق المتأخر عن حقيقة سائدة، حقيقة لا تُرى أو أنها منفية الوجود بعنف- لا يتيح إمكانية الاندماج كليا في الحداثة. - هل يمكن القول إن اعتماد هذه الثنائية يعني، ربما، أن هنالك إرادة (سياسية) لتعطيل التنمية؟ < لا أعتقد أن الأمر بهذا الشكل. يمكن طرح السؤال بطريقة أخرى، من خلال الإحالة على الحيلة في التاريخ، العزيزة على هيغل وماركس. عموما، يمكن أن نطرح السؤال عن أنفسنا بشكل مختلف. والفكرة هي كالتالي: من أجل تكييف ابتكار ابتكره العدو الوراثي مع مجتمع ما، فإنكم تعيدون تسمية هذا الابتكار، أي أنكم تعطون الانطباع بأنكم ابتكرتم ما اقتبستموه من الآخر، لكنه يستجيب إلى حاجة حقيقية تشعر بها الإنسانية جمعاء؛ وربما هذا ما نعيشه من خلال كل هذا الصياح والغضب. شعوب أخرى سبقتنا إلى هذا الطريق، وبرهنت على جنون هدام أكثر مما نعاينه اليوم. وكم من نظريات بُنيت على الخصوصيات التي، ربما، هيأت اليابان ليكون أكثر حداثة من أكثر الأوربيين حداثة. وأكتفي هنا بالتعليم ومحاربة الأمية. يقال إن الأمية اختفت من المجتمع الياباني منذ نهاية القرن التاسع عشر، أي قبل البلدان الأوربية بكثير. لكن، واعتبارا لاختلاف العلامات المستعملة في الكتابة، هل نتحدث عن نفس الشيء؟ ربما كل ما فعله اليابانيون لم يتعد كونهم أعادوا تسمية ما لم يستطيعوا رفضه أو ازدراءه. وبعد أن انتبهوا جيدا إلى نفعية الأشياء وجدواها، تبنوها بالصرامة والجدية اللتين تميزانهم بينما ما يميزنا نحن هو الانتظارية. مشكلنا الأساسي هو أن نعرف ما إذا كنا سنتمكن، يوما، من أن نصبح قادرين على الخلق والابتكار. هل سننتقل من التعليق إلى التجربة المباشرة؟ الروس والأمريكيون طرحوا السؤال نفسه في ما تعلق بمجتمعاتهم في منتصف القرن التاسع عشر. - في حوار مع نانسي غالغر، قلت إن المغرب هو البلد العربي الأكثر استعدادا للدخول في الحداثة. لكن، قبل ذلك قلت إن المجتمع العربي مازال غير مستعد لخوض ثورته الثقافية. هل هناك من بوادر تبين أن المغرب قريب من ذلك؟ < لربما أراني، اليوم، أقل تأكيدا لهذا الأمر من ذي قبل. فبلدنا ليس بالجزيرة المنعزلة، ومجتمعنا أصبح قابلا للتأثير الخارجي بشكل كبير؛ إلا أنني متشبث بأمل أن التقليد في مجتمعنا لم يتحول إلى نيو-تقليد، وأعني بذلك أن التقليد عندنا مازال سلميا نسبيا. لنستأنس بالحجاب مثلا. في البداية كنت أجدني مستفزا؛ لم أكن أستطيع أن أرى حجابا - ذلك الذي أتانا من الخارج والذي لم يكن لنا عهد به في المغرب- على وجه فتاة في الجامعة أو امرأة تقود سيارة فارهة بممر الأميرات، دون أن ينتابني شعور عنيف. كنت أقول لنفسي: هذا، إذن، هو مآل نصف قرن من النضال النسوي. كنت أعتقد أن الدولة يجب عليها، على الأقل، أن تتبنى المقاربة التي تبنتها السلطات التونسية، أي منع الحجاب حيث يشكل خطرا على الأمن العمومي - حالة المرأة المحجبة التي تقود السيارة - أو يسيء إلى الانسجام الاجتماعي من حيث أنه يضيف عنصر اختلاف آخر إلى مجتمع مقسم أصلا. بعد ذلك، لاحظت أنه بدأ يفقد، شيئا فشيئا، من قيمته الاحتجاجية، ومن كونه علامة دالة على معارضة السياسة الداخلية أو الخارجية للحكومة. أولئك الذين يتبنون الحجاب يتمنون، ربما، حدوث المواجهة؛ بيد أن سياسة «دع الأمور تسير» وسياسة «التجاهل المقصود» كانتا، ربما، أفضل طريقة للرد على ذلك؛ على الأقل حتى الآن. - أنت تدافع عن فكرة التحديث بينما تحيل هذه الكلمة في المغرب على معنى تقني، تقنوقراطي. لماذا تعتبر أن التحديث لا يُفهم من حيث كونه حالة ذهنية؟ < لم يحدث أبدا أن وُجدت حداثة شاملة، أو إنجاز لبرنامج مرسوم مسبقا. ما حدث هو أشكال من الحداثة: حداثة علمية في ألمانيا، اجتماعية في إنجلترا، سياسية في فرنسا، إلخ. فكل بلد كان حداثيا في مجال ما من المجالات وغير حديث، وأحيانا مضاد للحداثة، في مجالات أخرى. هنالك جماعات اجتماعية عارضت دائما، تقريبا، الحداثة. الكهنة، مثلا، وورثتهم، المثقفون. لا ننسى هنا أن الرومانسية الأوربية في شموليتها كانت ثورة ضد فلسفة الأنوار؛ فلسفة الأنوار هاته التي شكلت أول نظرية للحداثة. لقد قلت، في كثير من المناسبات، أن لا شيء مما نعيشه منذ قرن، هو منا وخاص بنا. الحداثة- المشكل، تلك التي غالبا ما نتكلم عنها، هي الحداثة السياسية، التي استغرقت، هي الأخرى، وقتا طويلا قبل أن تفرض نفسها. حروب الثورة وحروب نصف القرن التي توالت بعد ذلك، تراوحت، بدورها، بين الحديثة والمضادة للحداثة؛ أو الأصح أن نقول بين المحدثين والمضادين للمحدثين اعتبارا للوعي الواضح بمعنى الحداثة - الذي تجسده الماركسية خير تجسيد - الذي تبلور بعد الثورة الفرنسية. بالموازاة مع ذلك تبلور برنامج سياسي للتكيف مع هذه الحداثة في البلدان التي لم يسبق أن تجسد فيها أي وجه للحداثة، لاسيما في أوربا المتوسط وأوربا الدانوب. لماذا يا ترى قررت تلك البلدان، شيئا فشيئا، من خلال سلسلة من الثورات والانقلابات والحروب الأهلية، أن تحدث نفسها بينما بلداننا العربية لم تفعل ذلك، لا بالإيقاع نفسه ولا بالإرادة ذاتها؟ لنترك عامل الاستعمار جانبا، رغم أهميته لأنه سيذهب بنا بعيدا لو سرنا فيه، ولنركزعلى نقطة واحدة. عندما كان الإسباني يزور باريس، لم تكن لتحضر في ذهنه إلا فكرة واحدة وهي أن يبلغ بلده نفس مستوى التقدم الذي بلغته فرنسا في أسرع وقت ممكن لأنه لم يكن يرى نفسه مختلفا - باستثناء بعض الفولكلوريين - عن فرنسا، بل لأنه كان يعتبر نفسه متجاوزا أو متأخرا مقارنة بفرنسا. خلافا للإسباني، كان المغربي - ولدينا في هذا الموضوع شهادة عدد من السفراء - يعتبر نفسه مختلفا عن الفرنسي. وعندما يجد نفسه أمام الأشياء النفعية، كان يقول لنفسه: هذا لا يليق بنا. الحداثة، إذن، ليست هي التحديث. الأولى هي عبارة عن مسلسل تاريخي محدد بوضوح؛ والثاني هو عملية سياسية يمكن لأي واحد منا أن يختارها بكل حرية باسم النفعية والجدوى وحدهما. وأما الإصلاح الذي شهدناه في المغرب، قبل الحماية، فلم يكن تحديثا، لأن الأمر كان يتعلق بتحسين الوضع السائد آنذاك، وليس بتغييره. ولما كان مفهوم النفعية مفهوما مركزيا في أي مشروع تحديثي، فإنني أولي أهمية كبيرة، في مجال التربية، لتدريس الاقتصاد. فإذا قدمت لي كل ما هو نافع لمجتمعي، تبنيته مهما كانت نتائجه المتوقعة وغير المتوقعة؛ أنت تحديثي، إذن. أما إذا قلت بتبني شيء مهما كانت منفعته، رفضته؛ لأنه يسيء أو من شأنه أن يسيء إلى هويتي الثقافية؛ أنت، إذن، مناوىء للتحديث أو سينتهي بك المطاف إلى ذلك. هذا اختيار. والعلم كله لن يغير رأي من لا هم له سوى أناه. عن «لاروفي إكونوميا»