كعادته، في المرات القليلة التي يخرج فيها المفكر المغربي عبد الله العروي عن صمته، يقول أشياء نكاد لا نجد لها نظيرا بين ركام الأقوال في زمن الخواء المعرفي. في خرجته هاته، يفصح العروي عن مواقفه وتصوراته حول قضايا كثيرة تنطلق من أسلوبه في الكتابة وتتوقف طويلا عند مفاهيم الحداثة والتقليد والموضوعية وكتابته عن عهد الحسن الثاني والاقتصاد والليبرالية... لتنتهي عند قضايا التربية واللغة وأمور أخرى. مواقف العروي هاته عبر عنها في أجوبته عن أسئلة الزميل الباحث إدريس كسيكس والباحثة فاضمة أيت موس. الحلقة (الأخيرة) - أنت أحد المفكرين القلائل الذين مازالوا يرجعون إلى نظريات ماركس بشكل كبير في فكرهم. أين تتجلى راهنية ماركس بالنسبة إليك؟ < لأنه، بكل بساطة، أبرز منظر للرأسمالية والليبرالية. صحيح أنه كان يريد تجاوزهما، إلا أنه كان، قبل كل شيء، يريد فهمهما. إننا ننسى، أو نتجاهل ربما، أن هذا الأمر كان واضحا بالنسبة إلى رجل مثل «جوزيف شومبيتر». البعض يخلط بين ماركس والماركسية والبلشفية واللينينية والستالينية كما خلط آخرون من قبل بين روسو و روبيسبيير والترهيب، إلخ. لقد نُسي روسو طيلة 50 سنة، ونُعت بالرجل غير المستقر، متأرجح العقل قبل أن ينتهي به الأمر إلى أن يستعيد، عند الناس، مكانه الصحيح. صحيح أن ماركس لا يمثل المعرفة المطلقة ولا التجاوز المطلق للاقتصاد، ولا اكتمال التاريخ كما قال بذلك، في لحظة من اللحظات، بعض الذين يكرهونه اليوم. إنه المعلق الموهوب، العميق، محلل نظريات المفكرين الذين جسدوا، كلٌ في مجاله، وجها من أوجه الحداثة. بالنسبة إلي، أضيف إليه هنا كلا من ماكيافيلي وابن خلدون. فمن خلاله، أراهما أكثر إشراقا وتوهجا. أريد أن أشير، هنا، إلى نقطة واحدة وهي أن ماركس حاول- من غير أن ينجح في ذلك- ولا بد من الاعتراف بهذا – أن يدرس كيفية تكون الأسعار، والمشكل الذي طرحه في هذا الباب مازال قائما. آخرون ساروا في الطريق نفسه بعده، لكنهم لم يتوصلوا إلى شيء، واستخلصوا أن الأمر يتعلق بإشكال فلسفي، ثم انتقلوا إلى الاشتغال على الميكرو اقتصاد. لكن، ما هو السعر بالنسبة إلى المقاولة؟ من خلال طرحهم السؤال على هذه الصيغة المختلفة حصلوا على نتيجة. إلا أن المشكل بقي مطروحا على المستوى العام، والتقيناه من جديد، في الوقت الحاضر، مع عهد العولمة، إذ إننا لا نستطيع التحكم في الأسعار (أسعار النفط مثلا) لأننا لا نعرف كيف تنشأ أو، بالأحرى، لأن السوق لا يستطيع أن يتحكم في استقرارها، والسبب أن شيئا ما ينقصه. إنه السؤال الذي يطرحه ماركس، وهاهنا تتجلى راهنيته. - أنت مفكر معترف به، لكنك منعزل. في رأيك، ماذا يمنع المغرب من امتلاك القنوات والميكانيزمات الضرورية لكي يُؤخذ الإنتاج الفكري بعين الاعتبار في اتخاذ القرارات الاقتصادية والسياسية؟ < بما أن تفكيري يسير في الاتجاه المعاكس للتقليد، فلم يكن لدي بد من الصدام مع الآخرين بينما أصحاب القرار، أينما وُجدوا، لا يمتعون أنفسهم بحظوة الصدام هاته. فقد كانوا يريدون الإصلاح مع ترك الانطباع بأنهم داخل إطار التقليد. وليست الخاصية هنا خاصية المغرب فحسب. لقد تمنيت، مثلا، استقلال الجامعة وأردتها أن تكون موطنا للحداثة من خلال مزيد من المسؤولية وحرية العمل والتنوع في التوظيف (حتى من خارج المغرب)، بيد أن النظام زاد في تكريس وتقوية الجهة المؤيدة للتقليد (عن قصد أم لا لست أدري) من خلال منحها أقصى ما يمكن من الاستقلالية. فقد قدم إليها مزيدا من إمكانات التحرك. ولم تكن نتيجة الإصلاح في مستوى التطلعات. فهل لنا، أمام هذا الذي حدث، أن نلومهم؟ لا، علينا، فقط، أن نستخلص أن الجامعة لا يمكنها أن تكون حديثة في مجتمع لم يقرر نهائيا أن يكون حديثا. كذلك الشأن بالنسبة إلى التعليم المؤدى عنه، الذي ناديت به دائما، فلا يمكن تطبيقه طالما أن مفهوم الاقتصاد ليس منتشرا على نحو واسع في المجتمع من خلال المدرسة، تحديدا (الأمر أشبه، إلى حد ما، بمشكل البيضة والدجاجة). إننا إذا اعتمدنا محاسبة مزدوجة، ولو تقريبية، يمكننا، من جهة، ترقيم تكلفة التعليم وإجبارية الأداء عنه ومساعدة المحتاجين على تحمل تكلفة التعليم، من جهة أخرى. فالمدرس يجب أن يبرر أجرته من خلال عمله، والتلميذ سيكون أكثر إلحاحا وإصرارا في تعلمه لأنه يعرف ثمن التعيلم الملقن له ولأنه يؤديه من جيبه أو بمساعدة البرنامج الاجتماعي للدولة. لكن هذه المقاربة ليست مقبولة إلا من قبل من يفكر بشكل طبيعي بمنطق الاقتصاد. - هل تعتقد، إذن، أن التوافق الذي يسود في كل تلك اللجن التي تشتغل على المدرسة، يعاكس، في نهاية المطاف، الاتجاه الطبيعي للعملية الإنتاجية؟ < طبعا. هنالك اتفاق على عدم الحديث عن الأمور الأساسية، أي عن المبادىء؛ إذ ندخل، مباشرة، إلى مجال التقني أو الديداكتيك كما يقولون في كندا. بعد ذلك، هنالك من يقول:» لكن، لماذا لا نفعل مثل ما فعلت كوبا أو الأردن؟». لكن الواقع في هذين البلدين هو أحد أمرين: إما أن المشاكل العميقة لا تٌطرح، وإما أنها حُلت منذ زمان. ليس في هذين البلدين إلا لغة واحدة رئيسية معتمدة في التعليم. أيضا، ليس هنالك تعدد للغات، كما أن لا أحد فيهما يتباهى بالتعدد الثقافي. يمكن أن نرغب في تحقيق كل شيء، في وقت واحد، كما يمكن أن نطمح إلى أن ننجح حيث لم ينجح أحد من قبل، لكن شريطة القبول بدفع الثمن، أي تحقيق إنتاجية ضعيفة! - لنتكلم عن اللغات، إذن. خلال مسارك الغني، تأرجحت بين كتابة الدراسة والتحليل الدقيقين باللغة الفرنسية وبين الكتابة الأدبية القريبة منك باللغة العربية. ما هو تصورك للازدواجية اللغوية؟ < سبق لي أن قلت أن ليست هنالك ازدواجية لغوية كاملة. وهو أمر أقف عليه يوميا عندما أترجم نصا كلاسيكيا فرنسيا إلى العربية أو العكس. إذ إنني لا أعثر، أبدا، على مقابل دقيق، لا ينقص ولا يزيد في معنى الكلمة التي أريد ترجمتها. حاولوا أن تجدوا، مثلا، المقابل العربي لكلمة «Itinéraire» والمقابل الفرنسي لكلمة «السبيل». مهما فعلتم، ستجدون أن جزءا من المعنى يضيع في لحظة الترجمة. لذلك ينبغي الارتباط بلغة وطنية، الوحيدة التي يمكن أن نتقنها. لكن يجب، في الوقت نفسه، تدريس اللغة الأجنبية الأكثر أهمية وضرورة، في كل مجال على حدة وبجدية حقيقية. لكم أن تذهبوا وتثيروا هذا الموضوع مع المسؤولين، وسترون أن لا أحد سيصغي إليكم. من جهة أخرى، لم يبال المسؤولون، لسنين عديدة، بأن المشكل أصبح، ربما، غير قابل للحل، مع ما ترتب عن ذلك من نتيجة خطيرة تتمثل في أننا بتنا نسير نحو مجتمع تعمل فيه اللغة على التفريق لا على التوحيد. هنا، ما أخافني دائما هو «الساندروم» البلجيكي. فأنا ألتقي أناسا يعتقدون أنني لم أنشر أي كتاب بعد كتاب «الإيديولوجية العربية المعاصرة»، و ألتقي آخرين لا يعرفون أنني ألفت كتبا باللغة الفرنسية. مهما يكن، لا أعتقد أن بالدار خطرا طالما بقينا مع بعضنا في جو عائلي. - ما الذي يجعلك تقرر أن تكتب باللغة الفرنسية أو العربية؟ هل يمكن أن نقول إنك تكتب بالفرنسية حين الحديث عن الأمور المفاهيمية، وبالعربية حين الحديث عن الأمور الوجدانية؟ < لا، أبدا. غالبا ما تكون الصدفة هي التي تقرر في هذا الأمر، أو طبيعة المستمعين إلي: هل هم مفرنسون أم معربون، أو الكتابة إلى صحيفة أجنبية. لكنني إذا ما تناولت القلم وبدأت الكتابة بالفرنسية أو العربية، فإن المفهوم هو الذي يقودني في حال الكتابة بالفرنسية، والاشتقاق اللغوي في حال الكتابة بالعربية. والسبب، كما يبدو لي، هو أن الاشتقاق اللغوي الفرنسي يغيب عني لأنني لم أدرس اللاتينية. أشعر بهذا الأمر عندما أقرأ لكاتب كلاسيكي أو كاتب حديث مثل «أراغون» بينما يختلف الحال في اللغة العربية. ففي كتاب «مفهوم التاريخ»، كان الاشتقاق اللغوي (الجذور اللغوية) لكلمة «حفظ» هو الذي قادني نحو نظرية خاصة في الحديث عن مفهوم التقليد. وما كنت لأتوصل إليها لولا ذلك. كذلك الشأن بالنسبة إلى كتاب «سنة وإصلاح». فالاشتقاق أو الجذور اللغوية لكلمة «قرآن» هي التي أنارت لي وجه إبراهيم. ورغم ما في الأمر من غرابة، فهذا هو ما ليس التقليد مستعدا للقيام به، فهو يقدم الأشياء على أنها بديهية رغم أنها ليست كذلك. - حدث أن كنت خلال مسارك كله محللا تحتفظ بمسافة معينة بينك وبين تحلله، وشاهدا ملتزما، وفاعلا تُطلب استشارته، ومدافعا عن واجب التخييل. في أي صفة من هذه الصفات تجد نفسك أكثر؟ < لم أطلب أبدا أن يستشيرني أحد، كما لم أُستشر إلا نادرا. إلا أنني أعتقد أن الأمر يتعلق بواجب يجب القيام به عند المقدرة. لكنني في جميع الظروف أحتفظ، دائما، بالتمييز بين العمومي والخاص، وبين حقوق الجماعة علي وتلك التي أطالب بها كفرد والتي لا سلطة للجماعة عليها. أية علاقة بين التحليل النظري والتعبير الأدبي؟ الأول يستهدف الجماعة ويجب أن يكون مقتسما مع الغير؛ لذلك لا بد له من الأفق التاريخي، لأن التاريخ هو الذي يوحدنا ويجعل من كل واحد منا كائنا اجتماعيا. والمنهج يجب أن يتناسب والهدف المبحوث عنه. لم أستطع، أبدا، أن أفهم كيف كانت الجماعة تُخاطب انطلاقا من مبدإ فرداني، مطلق، فوضوي، عدمي أو كاره للآخر. إننا إذا لم نستحضر الجماعة، تكون لدينا حرية اختيار الوسائل والمناهج، حتى السهل منها، طالما أن الهدف هو الكلام أمام العالم وليس الاقتسام. هذا ما يثيرني في التعبير الأدبي. كان بإمكاني أن أتجاوز ذلك، وكان بإمكاني أن ألقى نجاحا أكثر على المستوى الاجتماعي. فأنا شعرت دائما بالحاجة إلى ذلك. هدفي، إذن، ليس هو الاقتسام، بل العطاء. لهذا السبب سمحت لنفسي بالتجريب. يقال: «إن كتاباتي صعبة، إلا أن الصعوبة جزء من المشروع». وبما أنني لست مزدوج الشخصية، فهنالك، إذن، روابط بين هذا المستوى وذاك. ففي كتاب «الفريق»، تُُطرح، بشكل ضمني، قضية عقلانية سلوكاتنا اليومية داخل وسط خاص، هو وسط كرة القدم، الرياضة الجماعية بامتياز. وفي كتاب «غيلة»، تثار قضية الموت وموقفنا التقليدي تجاهها. وفي رواية «الآفة»، أثير قضية الذاكرة، أصلها والخطر الذي تمثله، من حيث إنها إما ضعيفة أو مبالغة في التضخم في مجتمع ما. إلا أن هذا المضمون المفاهيمي (الموصوف في مقابل الموضوع) يبقى ثانويا بالنسبة إلي؛ فأنا لم أرغب أبدا في أن تُقرأ هذه الروايات من حيث كونها دراسات بنفحات روائية، بل إنني كنت دائما أريد أن يُهتم أولا بالحكاية، ثم بالتقنية المستعملة في الكتابة، فالنغمة؛ وذلك بعيدا عن الفكرة والأسلوب، أي الصدى الذي يبقى بعد إغلاق دفتي الكتاب ونسيان مضمونه. عن هذه الأشياء كلها يتكلم كتابي «أوراق»، الذي لم يُحتفظ منه إلا بالحكاية. عن «لاروفي إكونوميا»