لا شك في أن التاريخ سيعتبر «الربيع العربي» لحظة مهمة لجهة تحرّر الشعوب العربية من الحكام الاستبداديين. لكن، على غرار معظم الانتفاضات السياسية الأساسية، يملك هذا الحدث عددا من التبعات المؤسفة وغير المتوقعة. تعرضت اقتصادات مصر وتونس واليمن لضرر كبير. وأدت الحرب الأهلية، التي لا تزال مستمرة في سورية إلى سقوط عدد كبير من الضحايا المدنيين وإلى حصول دمار مادي هائل. وفي الساحل، تنامى العنف وعمّت الفوضى عقب الإطاحة بالرئيس الليبي معمّر القذافي، ولاسيما في مالي حيث استولى الثوّار الطوارق، المدعومون من المجموعات الإسلامية، على جزء كبير من أراضي البلد. كما ازدادت حدّة التوترات المذهبية في أنحاء المنطقة، مما جعل الأقليات تشعر بانعدام الأمان. وتمّ وضع قضية فلسطين على هامش الانتباه الدولي؛ فيما تستمر إسرائيل، المدعومة بالكامل من الولاياتالمتحدة، في الاستيلاء على الأراضي. تعدّ تركيا ضحية تبعات «الربيع العربي»، فقد انهارت سياستها الطموحة في الشرق الأوسط. ومنذ سنتين، كان في وسع تركيا القول إنها البلد الأكثر نجاحا في المنطقة، فشهد اقتصادها ازدهارا كبيرا، وحظي رئيس وزرائها رجب طيب أردوغان، الذي يتمتع بكاريزما كبيرة والذي يتبوأ منصبه منذ عام 2002، بشعبية في الداخل وباحترام في الخارج. وتم اعتبار التعايش بين الديمقراطية والإسلام في تركيا مثالا يُحتذى في المنطقة. ونُسب فضل فرض نظام إقليمي سلمي قائم على مبدأ «صفر مشاكل مع الدول المجاورة» إلى وزير الخارجية أحمد داود أوغلو، الرجل الأكاديمي الذي بات رجل دولة. وشكلت الشراكة التركية-السورية التجارية والسياسية محورا أساسيا في نظام داود أوغلو الإقليمي الجديد، علما بأن هذه الشراكة توسعت لتشمل منطقة تجارة حرة تضم تركيا وسورية ولبنان والأردن. وتم إلغاء تأشيرات الدخول بين تركيا وهذه الدول. في الوقت نفسه، بدت شركات البناء التركية فاعلة في المملكة العربية السعودية وفي دول الخليج وفي ليبيا (حيث بلغت قيمة العقود الهادفة إلى بناء الطرقات والجسور وخطوط الأنابيب والمرافئ والمطارات 18 بليون دولار). وسعت تركيا بعد تحقيق هذه النجاحات إلى حلّ بعض النزاعات المستعصية في المنطقة، وحاولت جاهدة جلب سورية وإسرائيل إلى طاولة المفاوضات، كما أحرزت إلى جانب البرازيل تقدما واعدا في اتجاه حلّ مشكلة برنامج إيران النووي. وفي أفغانستان، كانت القوات التركية القوة الأجنبية الوحيدة المرحّب بها، الأمر الذي مهّد الطريق أمام أنقرة لأداء دور في التفاوض على حلّ مع حركة «طالبان». فضلا عن ذلك، أمل رئيس الوزراء أردوغان في التوصّل إلى اتفاق مع اليونان التي تعدّ خصم تركيا السابق وفي إقامة سلام مع أرمينيا (البلد الذي لا يزال يشعر بالألم بسبب المعاملة القاسية التي لقيها الأرمن من الأتراك العثمانيين). كما بدا رئيس الوزراء التركي مستعدا لتقديم تنازلات سياسية أساسية لمصلحة الأكراد الموجودين شرق الأناضول بهدف وضع حدّ نهائي للنزاع الطويل والعنيف مع حزب العمّال الكردستاني الذي أدى إلى مقتل عشرات الآلاف من الأشخاص. لكن، سرعان ما انهار كلّ شيء، فرفضت واشنطن الصفقة التي تفاوضت عليها تركيا والبرازيل مع إيران حول منشآتها النووية؛ ولم تجد العروض التي تقدّمت بها تركيا إلى أرمينيا نفعا، فبقيت الحدود مغلقة بينهما؛ ونشب خلاف حاد بين تركيا وإسرائيل حين شنت فرقة كوماندوز إسرائيلية هجوما على السفينة التركية «مافي مرمرة» في المياه الدولية وقتلت تسعة ناشطين، معظمهم من الأتراك، كانوا يحاولون كسر حصار إسرائيل الوحشي على قطاع غزة؛ ورفضت إسرائيل الاعتذار عن تصرفها الوحشي؛ كما تبدّدت آمال تركيا في إقامة علاقات أفضل مع اليونان بسبب انهيار الاقتصاد في اليونان. وعلى الصعيد التجاري، أدت الإطاحة بالقذافي إلى وضع حدّ لعدد من العقود التركية المهمّة في ليبيا، فيما تلقت أعمال تركيا الواسعة مع المملكة العربية السعودية ودول الخليج العربي ضربة قاسية جرّاء توقف حركة النقل عبر سورية بسبب الانتفاضة هناك؛ وتراجعت العلاقات بين تركيا وإيران التي كانت ودية لأنهما وجدتا نفسيهما في موقعين متعارضين في النزاع السوري،؛ فيما توترت العلاقات بين تركيا والعراق بسبب روابط تركيا الوثيقة بالحكومة الإقليمية الكردية المستقلة شمالي العراق. وبدلا من اعتماد سياسة «صفر مشاكل مع الدول المجاورة»، تتخبّط تركيا اليوم في مشاكل خطيرة على الجبهات كافة، وخفت نجم أحمد داوود أوغلو، وبات يُعتبر سياسيا غير محترف يناضل من أجل الصمود بعدما كان استراتيجيا محنكا. وشكل قرار تركيا دعم الثوّار السوريين ضد نظام الرئيس بشار الأسد نقطة التحول الحقيقية، وانهارت فجأة الشراكة التي كانت قائمة بين تركيا وسورية، مما أدى إلى انهيار سياسة تركيا العربية. وبدلا من محاولة حلّ النزاع السوري من طريق الوساطة، علما بأنها في موقع مناسب يسمح لها بالقيام بذلك، أخذت تركيا طرفا فقدّمت المأوى إلى المعارضة السورية المدنية في إسطنبول والمخيمات إلى الجيش السوري الحر والمجموعات المقاتلة الأخرى. ويسيطر الثوّار السوريون الذين يحظون بالحماية التركية على جزء صغير من الأراضي التي تمتد على طول 70 كيلومترا على الحدود السورية-التركية. ويبدو أن تركيا وسورية في حالة حرب افتراضية، ففي معرض الثأر من دور تركيا في نقل الأموال والأسلحة والمعلومات الاستخباراتية إلى الثوّار، يبدو أن سورية تشجّع حزب العمّال الكردستاني وحزب الاتحاد الديمقراطي السوري التابع له على زيادة الضغوط على تركيا. احتل حزب الاتحاد الديمقراطي خمس قرى كردية شمالي سورية حيث سُحبت قوات الحكومة السورية عمدا. وفي حال حصل أكراد سورية على الاستقلال الذي يحظى به أكراد العراق، قد يمارس الأكراد في تركيا المزيد من الضغوط للحصول على حقوقهم السياسية وعلى حرياتهم. ويبدو أنه تتم إعادة إحياء تمرد حزب العمال الكردستاني الذي دام 28 سنة شرقي تركيا من خلال نصب كمائن قاتلة ضد أهداف عسكرية تمثلت في الهجوم الأخير الذي شنّ يوم الأحد الماضي والذي قتل عشرات الجنود الأتراك. قد يصبح النضال الهادف إلى وضع حدّ للنضال الكردي مشكلة تركيا الداخلية الأكثر إيلاما. ويشكل تدفق اللاجئين السوريين مشكلة حقيقية بالنسبة إلى تركيا. ومن أجل الحدّ من هذا التدفق، أغلقت تركيا حدودها مع سورية في الوقت الحالي. ويقدّر عدد اللاجئين السوريين بنحو 80 ألف لاجئ موزعين على تسعة مخيمات، ويتمّ تشييد خمسة مخيمات أخرى قادرة على استيعاب 30 ألف لاجئ. وأعلنت تركيا أنه لا يسعها استيعاب أكثر من مائة ألف شخص بدون مساعدة الدول الأخرى والمنظمات الدولية. هل يجب أن تراجع تركيا سياستها تجاه سورية؟ بدلا من الانضمام إلى الحرب التي تشنها واشنطن (وإسرائيل) ضد طهران ودمشق، يجدر بأنقرة أن تتراجع تدريجيا عن موقفها وأن تعتمد موقفا أكثر حيادية. يحتاج الأخضر الإبراهيمي، مبعوث الأممالمتحدة الجديد للسلام، إلى مساعدة تركيا في مهمّته الصعبة الهادفة إلى بلوغ حلّ سلمي للنزاع السوري. قد تكون هذه هي الطريقة كي تستعيد سياسة تركيا في الشرق الأوسط مجدها. ينبغي على تركيا إعادة النظر في علاقاتها بالدول المجاورة لها، وأولاها سورية.