حينما انتهيت من قراءة «المدينة التي»، للقاص هشام ناجح، خرجت بانطباع خاص وإحساس بأن ناجح نجح في أن يضع قدميه على قارعة الرواية... عرفته قاصا شق طريقه صحبة كوكبة من القصاصين، الذين بصموا أسماءهم في الساحة الأدبية الشابة، مع أنني لا أحب هذه التصنيفات الزائفة. رواية «المدينة التي» من صنف الروايات المغربية الأصلية التي ذكّرتني شخصيا بالروائي محمد زفزاف، بعوالمه، بحيّه الخلفي، بتيماته التي تغرف من القاع... قاع المدينة، التي تحوي العاهرات والشواذ، والانتهازيين، السكارى والحشّاشين... «المدينة التي» صور واقعية مرآوية، نرى فيها ذواتنا، يرى فيها التاريخ نفسه، ذاته، وتنسرب ممرات بكر. تحاول القبض على ذلك الخيط الرفيع، خيط الحكاية/ الحكايات... الراوي فيها حر طليق يقول، يرى، يحس، يلمس، يعيش، يتألم، يتعذب يتلذذ. فنلعق أصابعنا، من لذة النص... فهذه الشخوص من ورق. أبدعها المؤلف، وهو حي يرزق، أكاد أراها تأكل الطعام وتمشي في الأسواق... «المدينة التي» شخوصها أحرار، يفعلون ما يشاؤون، يتحررون من ثقل اليومي بالانغماس في لغة الجسد. الجسد ينعتق رغم أنفه، يتنفس، يلهث، يتأوه من فرط اللذة. تختلف مصائر الشخوص، كل يدلي بدلوه، يعارك الحياة القاسية. لكنهم يتفقون على تخفيف المعاناة بالممارسة الجنسية.. الجنس هنا تيمة أساسية اشتغل عليها المؤلف. وتوفق في توظيفها، شأنه شأن محمد شكري ومحمد زفزاف، عكس بعض المبدعين المغاربة، الشبان بالخصوص، الذين يوردون الجنس في القصة أو الرواية مجانا وكأنه مجرد تلوينات يزيّن بها النص... وكما جاء في التقديم الذي استهل به الكاتب روايته، للأستاذ محمد داني: «إنه يأخذنا في رحلة من أيام الاستعمار والحماية إلى ما بعد الاستقلال وسنوات الثمانينيات، لنواكب معه التغيرات التي مسّت الإنسان المغربي ومجتمعه، التحول/ المسخ الذي أتى على القيّم والمبادئ وحتى على الإنسان في علاقاته وأحلامه ورؤاه.. إنها رحلة غنية، بشبقيتها وعفويتها وخواطرها وآلامها». فعلا، استطاع هشام ناجح أن يعيدنا، بجدارة، إلى الرواية الكلاسيكية... لكنْ بنكهة معاصرة، شابة، يافعة. تفوقت في هذا المؤلف البكر، الذي دشن به الكاتب مسيرته، «المدينة التي» تعد انطلاقة موفقة للكاتب ناجح هشام، الذي تقلب في عدة أجناس... المسرح -القصة -الرواية -التمثيل على خشبة المسرح.. وأخيرا عانق السينما.. هذه هي القطرة الأولى، وبنقطة نقطة كيحمل الوادْ... وقبل الختام: هل الكاتب الذي يشبه أو يُذكّر بكاتب آخر سبة، قدح أم مدح؟ هل ناجح، الذي يذكرنا بزفزاف، تُحسَب له أم عليه؟.. ناشر نجيب محفوظ، حينما فاز بنوبل شبّهه ناشره ببالزاك... وكثيرا ما يُشبَّه أديب بأديب... وهذا عرف كان في السابق انمحى أثره... وأظن أن ناجح أعادنا إلى زمن التّشبيهات... فمرحى بهذا القادم إلى الرواية المغربية... ونحن ننتظر منه أن يغرف من ذخيرته، البدوية والشعبية والمهمشة وحيّل النساء. فهو بارع في النكتة والمثل وتقمص الشخصيات.. ومُلمّ بالقاموس الشعبي، بما يحتويه من الحكايات عن الجن والسحر والربط، وملمّ بمقالب البدو في البيع والشراء والمشاجرات... وإذا وظف هشام هذه الذخيرة في روايته القادمة فسيكون علامة متميزة تنضاف إلى الأدب المغربي.