الجامعة الصيفية هي أحد التقاليد الراسخة في الثقافة السياسية الفرنسية، فقبل كل موسم سياسي جديد ولبصم نهاية العطلة الصيفية، يعقد كل فصيل سياسي جامعته الصيفية، وهي صيغة تجمع ما بين النزهة وورشة العمل السياسي. كما توفر هذه اللقاءات فرصة لإجراء جرد حساب للإنجازات والتعثرات للحزب أو التشكيلة السياسية مع رسم الآفاق وطرح أفكار أو برامج جديدة. تعتبر الجامعة الصيفية التي دأبت الفصائل السياسية الفرنسية على عقدها كل سنة بمثابة مختبر نظري ومجال للتناظر والنقاش. وتنظم الجامعات الصيفية لهذا العام في ظرفية يميزها على المستوى الاقتصادي الأزمة الهيكلية بارتفاع لمعدلات البطالة، عجز في التجارة الخارجية، ارتفاع للمديونية الخ... سياسيا، تنعقد هذه الجامعات في ظل فوز اليسار وطرحه لنموذج جديد من الحكامة والتسيير. الصورة المشوشة كان البيئيون أول من دشن هذه الجامعات بعقدهم لجامعتهم الصيفية بمدينة بواتييه. وفي ظرف ثلاثة أيام طرح الفريق مجموعة من القضايا بعضها من وحي الوضع الراهن الجديد والبعض الآخر يشكل العمود الفقري للمطالب التي ما فتئوا يناضلون من أجلها مثل الرهان النووي، استعمال وسائل النقل الإيكولوجية الخالية من التلوث، الرهان البيئوي على الصعيد الأوروبي... لكن رحى النقاش خلال هذه الأيام دار حول مسألة: «أية خصوصية للبيئيين في ظل الحكومة الاشتراكية، وما هي مسؤوليتهم ضمن هذا الكيان؟ هل يمتثلون للتعليمات الحكومية القاضية بتحكيم قرارات الوزير الأول أم يأخذون حريتهم للتعبير عن مواقفهم حتى وإن تناقضت مع البرنامج الرئاسي؟». ويزن حضور البيئيين بتمثيلية 17 نائبا برلمانيا، 12 نائبا في مجلس الشيوخ ووزيرين في الحكومة. غير أن بعضهم عقد صلة قرابة مع المواقف والأطروحات الراديكالية لجان-ليك ميلنشون. لم تفتأ تعددية التيارات أن قلصت من جاذبية الحزب. كما أعطت صورة مشوشة عنه بالخارج. البهجة العابرة على بعد أميال من مدينة بواتييه، وتحديدا بمدينة لاروشيل عقد الحزب الاشتراكي جامعته الصيفية التي استغرقت أشغالها ثلاثة أيام، ومن بين الأهداف الرئيسية التي سطرت لنسخة هذا العام الاحتفال بالفوز بالانتخابات الرئاسية والتشريعية. وقد عرفت مارتين أوبري، السكرتيرة الأولى للحزب بروح هذه الجامعة بقولها إنها جامعة «مبتهجة» و«جدية». وتغيب عن الجلسات كل من أوليفييه فالورني، النائب الذي دخل في عصيان ضد سيغولين رويال وضد الحزب والذي حظي بمساندة فاليري تريفايلير، رفيقة فرانسوا هولاند. كما تغيبت سيغولين رويال بسبب رحلتها لإفريقيا الجنوبية لإعداد مؤتمر الأممية الاشتراكية العالمية. في الأيام الأولى بدل البهجة، ساد شعور لدى المناضلين بالكآبة. أما الاستطلاعات التي نزلت فيها شعبية الرئيس هولاند إلى ما دون 50% فلم يعرها هؤلاء اهتماما يذكر. وقد شهدت الجامعة في ظرف يومين من النقاش والمناظرة مساهمة 4500 مناضل، وهو رقم لا بأس به. وفي ختام جلسات السبت دعا الوزير الأول، جان-مارك أيرو إلى «يسار مستدام غايته إنجاز تغيير عميق للمجتمع الفرنسي». أما مارتين أوبري فاختتمت أشغال الجامعة بخطاب دام لساعة شددت فيه على الإنجازات التي تحققت في ظل مائة يوم من حكم فرانسوا هولاند سواء في مجال العدالة أو السياسة الخارجية الفرنسية أو في الحقوق الاجتماعية والمدنية. بقيت مارتين أوبري على الخط وضمن الإجماع الحكومي إدراكا منها أن الأيام القادمة ستكون جد صعبة على جبهة الشغل والتعليم والبطالة التي قفزت إلى معدلات تاريخية حيث فاق عدد العاطلين 3 ملايين شخص. الواضح أن الورشات التي فتحتها الحكومة لا تجد بالضرورة أصداء إيجابية لدى الفرنسيين. غير أن هذه الأيام شهدت احتداما للنقاش في موضوع التوقيع على المعاهدة الأوروبية التي يرفض تيار بونوا أمون والتيار المحسوب على يسار الحزب الاشتراكي توقيعها. وقد «نزلت» على هذا الأخير الطلبات والضغوط لإبداء موافقته وعدم الخروج على الإجماع. وفي أحدى الاجتماعات «تخانق» بسخاء المشاركون في النقاش من حول السؤال: هل يجب تقديم عريضة في هذا الموضوع أثناء مؤتمر تولوز القادم أم لا؟ المهم هو أن الموسم السياسي الجديد سيكون حافلا بالنشاط سواء على المستوى الاقتصادي أو على مستوى الإجراءات الاجتماعية، التي دشنتها الحكومة مثلا بتخفيضها لأثمنة المحروقات. وإن صعدت إلى الجبهة جميع الشخصيات للالتفاف من حول السياسة المتبعة من طرف هولاند، فسيطلع هذا الأخير بدوره في مستهل شتنبر خلال النشرة المسائية للقناة الأولى على الفرنسيين لشرح سياسته والخطوات التي أقدم ويقدم عليها مستقبلا في المجالات الاقتصادية والاجتماعية. غير أن المواضع الحساسة التي تركز عليها النقاش تهم التعليم، مستقبل الشباب، محاربة البطالة، إعادة الثقة وروح المنافسة للصناعة الفرنسية، مواصلة بناء الوحدة الأوروبية. وهذا ما شددت عليه في خطابها الختامي السكرتيرة الأولى للحزب مارتين أوبري. لكن على الرغم من الحزازات والخلافات أبدى الحزب الاشتراكي استعداده للوقوف وراء الرئيس هولاند. تغادر مارتين أوبري سكرتارية الحزب مخلفة وراءها حصيلة إيجابية، وبالأخص تهييء الظروف لفوز الاشتراكيين.
مهماز ميلنشون بالرغم من هزيمة فصيله السياسي في الانتخابات الرئاسية والتشريعية، لم يفقد جان-ليك ميلنشون سطوته المعهودة. بعد أن وجه انتقادات حادة لفرانسوا هولاند ولمائة يوم من رئاسته التي لم تسفر إلى الآن في نظره عن أي حصيلة ملموسة، أعاد الكرة خلال لقاءات الجامعة الصيفية لجبهة اليسار، التي عقدت أشغالها بمدينة غرونوبل. وقد حل الناشط جوليان أسانج عبر الهاتف ضيفا على التجمع الافتتاحي. فأمام حضور 500 شخص، أشار صاحب ويكيليكس إلى أن فرنسا كانت جد مهمة بالنسبة للموقع الذي ينشطه، إذ لقي الدعم من طرف قسم هام من الصحافة الفرنسية لما طرح عام 2010 البرقيات الدبلوماسية المصنفة سرا. وأشار إلى أن حرية التعبير مهددة ودعا إلى مساندة الحكومة الفرنسية. كرر ميلنشون هذه الدعوة طالبا من الحكومة الفرنسية مساندة حكومة الإكوادور لكي يتمتع أسانج بحق اللجوء السياسي. «نقول للحكومة البريطانية: سمحتم برحيل الجنرال بينوشيه، يمكنكم إذا السماح برحيل أسانج» أشار جان-ليك ميلنشون في الكلمة التي ألقاها أمام مناضلي فصيله السياسي. البيعة لساركوزي وبما أن لكل جامعة توجهها السياسي وفلسفتها السياسية، فإن لكل جامعة أيضا مدينتها. في الوقت الذي اجتمع فيه الحزب الاشتراكي بمدينة لاروشيل (بشمال غرب فرنسا)، وجبهة اليسار بمدينة غرونوبل والبيئيون بمدينة بواتييه، اختار اليمين التقليدي مدينة نيس التي يسيرها العمدة كريستيان إيستروزي، الذي يزاوج في قناعاته السياسية بين اليمين الساركوزي واليمين الشعبي القريب من أطروحات مارين لوبان. نيس مدينة الأثرياء وبالتالي المدينة «المدججة» بأكبر نسبة للكاميرات لمراقبة المدينة ! إن احتفل الاشتراكيين بلاروشيل بالفوز، فإن اليمين التابع لحزب الاتحاد من أجل حركة شعبية اجتمع لتكريم ساركوزي، وذلك بدعوة من «جمعية أصدقاء نيكولا ساركوزي». وقد شيد له أعلام الحزب نصبا تذكاريا وهو على قيد الحياة. أحد الدلالات الرمزية لهذا التكريم هو أن أتباعه وجدوا أنفسهم بدونه يتامى. فقد ترسخت في دواخلهم ثقافة الولاء والتبعية للزعيم أو الأب. وبخسارته في الانتخابات الرئاسية، وانسحابه من المشهد، عمهم شعور باليتم والترقب، كما لو كان ساركوزي المهدي المرتقب. إذ ثمة أنصار يؤمنون بعودته قريبا إلى المحفل السياسي بعد أن يكون الحزب قد عبد الطريق بدكه لمشروع الاشتراكيين. لكن الاتحاد من أجل حركة شعبية هو مسرح لحرب مسعورة من حول الزعامة وبالأخص بين جان-فرانسوا كوبي، السكرتير العام للحزب وفرانسوا فيون، الوزير الأول الأسبق. وما بين هذين القطبين اللذين أنشآ آلة حربية، تحاول بعض الشخصيات الأخرى طرح ترشيحها كبديل لدرء الخلافات والحفاظ على وحدة الحزب. هكذا دخل المعترك كل من برينو لومير، وزير الفلاحة السابق في حكومة فرانسوا فيون، غزافييه بيرتران، ناتالي كوزيسكو موريزي، بل وحتى كريستيان إيستروزي ينوي طرح ترشحه... إن كان جان-فرانسوا كوبي يلعب ورقة اللوبيات لتمرير ترشحه فإن فرانسوا فيون يعول على شعبيته لدى مناضلي الحزب الذين يقرون له بالاتزان وبملكة الحوار، على النقيض من خصمه الذي «يتشدق» كثيرا ويستنسخ الأساليب الساركوزية مثل المجابهة، والازدراء وروح الانتقام. ومنذ سنتين عمل على توجيه الحزب في الاتجاهات التي يشتهيها وذلك بطرحه لتيمات منزلة أحيانا من الفوق مثل البرقع أو الهوية الوطنية أو العلمانية. وقد وطد العزم على تكذيب الاستطلاعات التي ترشح خصمه فرانسوا فيون للفوز برئاسة الحزب مع العلم أن هذا الأخير لم يكن مناضلا بالمعنى الضيق ولم تكن له طموحات تكوين وتفكيك الخلايا الحزبية. وقد حدد تاريخ 18 نوفمبر لعقد الدور الأول من الانتخابات التي يساهم فيها 260 ألف ناخب من الحزب، يليه دور ثان في 25 من نفس الشهر. غير أن أصواتا ارتفعت للمطالبة بالحياد. واقترح لوران فوكييه أن تشغل ميشال آليو ماري منصب سكرتيرة عامة بالنيابة إلى غاية انتخاب رئيس الحزب الجديد. لكن جان-فرانسوا كوبي وأنصاره يرفضون هذا الاقتراح بحجة أن المكتب السياسي حسم في الأمر. تشرذم الحزب! لكن ثمة تساؤلات رافقت هذا التجاذب بين القطبين الرئيسين في الحزب أهمها: ماذا لو انعكست هذه المواجهة سلبا على الحزب والدفع به إلى التشرذم؟ فيما يرجح البعض الآخر انعكاس هذه المواجهة بالإيجاب بإنعاشها للممارسة السياسية مع طرح قضايا جديدة تهم بالأساس مسألة الزعامة والشفافية وتخصيص فسحة أكبر للنساء في مجال يبقى ذكوريا بامتياز. ومن بين إيجابيات هذا السباق نحو رئاسة الحزب النداء الذي رفعه أنصار فرانسوا فيون لكي يتخلى جان-فرانسوا كوبي عن السكرتارية العامة للحزب وذلك بتقديم استقالته وتقديم ترشيحه بطريقة عادية. إن انتقد الاتحاد من أجل حركة شعبية الحزب الاشتراكي، فإنه يقر له بممارسة الديمقراطية الداخلية. وكانت الانتخابات التمهيدية التي استبقت اختيار المرشح الرئيسي للانتخابات الرئاسية تجسيدا لذلك. وعلى شاكلة المناظرات التلفزيونية التي نظمتها القناة الثانية أثناء الانتخابات الأولية للحزب الاشتراكي، برمجت هذه الأخيرة سلسلة لقاءات للتناظر بين المرشحين. يبقى أن الصيغة التي تلخص تصرف الساركوزيين هي «الدفع بالنفايات تحت السجاد» ! فبدل فتح النقاش في أسباب الخسارة في الانتخابات الرئاسية والانتخابات التشريعية، بدل تعيين وتحديد المسؤوليات وبخاصة مسؤولية ساركوزي ومهندسي سياسته غيبت هذه المسؤوليات. ولما اقترحت روزلين باشلو، وزيرة الصحة سابقا، النظر في الموروث الساركوزي انتفضت أصوات من كل الجهات لإسكاتها. هذا ما يفسر غيابها في هذا التكريم. في الأخير يبقى حزب الاتحاد من أجل حركة شعبية شبيها بالأحزاب العربية التي تجتمع للأكل والتصفيق والتزكية!
من سيكون خليفة أوبري؟ لم تكسب مارتين أوبري جاذبيتها من انتمائها إلى عائلة دولور (فهي ابنة جاك دولور)، حيث يبقى والدها من بين الشخصيات السياسية الفرنسية بل العالمية الوازنة في ميدان الاقتصاد، بل من تكوينها وتجاربها التي قادتها إلى تقلد مناصب رفيعة في هرم السلطة في ظل حكم الاشتراكيين. تشغل منذ 2008 منصب سكرتيرة أولى للحزب الاشتراكي. لم تقم بمداومة روتينية داخل الحزب بل خططت لقيادته نحو الفوز، بالرئاسية ثم بالانتخابات التشريعية. وكانت تنتظر أن تكافأ على إنجازها بتقلدها للوزارة الأولى، لكن فرانسوا هولاند ضرب حسابات أخرى القصد منها إنشاء شبكات بديلة يمكنها أن تكون الرديف الموازي للحزب الاشتراكي وفي نفس الوقت قوة ضغط تخدم سياسته. في البداية، اعتزلت أوبري المشهد قبل أن تعود مجددا لدحض التكهنات القائلة بالقطيعة مع هولاند، وأخذ زمام الدفاع عن الحكومة والرئيس. ترى أوبري بأن الطريق شاق على خلفية الأزمة الخانقة التي تنتظر البلد والأوراش التي تنتظر الإنجاز. لذا عادت مارتين أوبري للتموقع إلى جانب جان-مارك إيرو وفرانسوا هولاند. في اختتام أشغال الجامعة الصيفية تكلمت بنفس اللغة التي نطق بها الوزير الأول. كما دعت مناضلي الحزب إلى مساندة الخطوات التي سيقدم عليها فرانسوا هولاند مستقبلا. تعتبر أوبري إذن أن مهمتها قد انتهت وأن بإمكانها تسليم المفاتيح لشخص آخر. لكن من سيخلفها لمتابعة المهمة؟ طرح اسمان للخلافة: جان-كلود كامباديليس وهارليم ديزير. ويسعى كل منهما إلى كسب ودها، فيما تتلذذ هي في الإبقاء على "السيسبان" إلى غاية انعقاد مؤتمر الحزب في أكتوبر القادم بمدينة تولوز. تؤكد عمدة مدينة ليل بشمال فرنسا بأن أمنيتها هي التفرغ لمدينتها وإعداد الانتخابات البلدية لعام 2014 ، والتي ستكون أحد الاختبارات الرئيسية لفرنسوا هولاند والحزب الاشتراكي. كما أنها تطمح للقيام بدور البديل في حالة تعثر حكومة جان-مارك إيرو، لتقلد منصب الوزارة الأولى.