تعتبر الانتخابات التشريعية، التي أعطيت انطلاقة حملتها الرسمية يوم الاثنين ما قبل الماضي، أول امتحاني حقيقي للرئيس الفرنسي الجديد، فرانسوا هولاند.. ففي السابع من شهر يونيو المقبل سيقرر الفرنسيون هل سيوفرون للرئيس الاشتراكي الذي فضلوه على اليمني المهزوم، نيكولا ساركوزي، أغلبية مريحة تمكنه من تحقيق الوعود التي قطعها على نفسه في الحملة الانتخابية أم إن هولاند سيجد نفسه أمام «حكومة تعايش» قد تقلص من مجال حركاته وقراراته؟ انطلقت يوم الاثنين 21 ماي بكيفية رسمية الحملة الانتخابية للجولة الأولى من الاقتراع التشريعي المزمع إجراؤه في السابع من شهر يونيو. وبلغ عدد المرشحين 6591 مرشحا يمثلون كل الأطياف السياسية. وسيتم انتخاب 577 نائبا برلمانيا عند متم الدورتين. ازدانت اللوحات الانتخابية بملصقات وصور المرشحين وشعاراتهم. الملاحظ أن هذا الاقتراع يمر في مناخ فاتر مقارنة بالأجواء الصاخبة التي رافقت الاقتراع الرئاسي. وباستثناء بعض التجمعات الكبيرة التي عقدها زعيما الجبهتين، جان-ليك ميلنشون ومارين لوبين ببلدة هينان-بومان بشمال فرنسا ( وهي البلدة التي تحولت إلى مسرح لمجابهة ثنائية لتصفية الحسابات بين المرشحين)، فإن بقية التشكيلات بمن فيها الحزب الاشتراكي تجد صعوبة كبرى في تجنيد قواعدها. ويطرح الخبراء نسبة المشاركة والامتناع عن التصويت كمعايير توجيهية لنجاح هذا الاقتراع أو فشله. وفي هذا الإطار الفاتر، اكتفى بعض المرشحين بالتردد على الأسواق المحلية لتوزيع منشوراتهم، الشد على الأيدي وفتح النقاش مع المواطنين. إن نهل المرشحون الاشتراكيون من المعجم السياسي الذي طرحه على أرضية الميدان خلال تنقلاته في ربوع فرنسا، فرانسوا هولاند، من قبيل شعارات العدالة الاجتماعية، إنزال الضرائب على الأثرياء، الدفع بعجلة التنمية الخ... فإن مرشحي اليمين، على العكس حجبوا الشعارات التي رفعها زعيمهم ساركوزي ولا أحد يتكئ عليها، لأنهم يعرفون أن الفرنسيين لفظوا ساركوزي وأيديولوجيته. لذا لا يرغبون في النهل من مرجعية الشؤم التي جسدها. أغلبية أم تعايش؟ السؤال الذي يطرح اليوم هو: هل سيوفر الفرنسيون لفرانسوا هولاند أغلبية مريحة تمكنه من إنجاز الوعود التي تعهد بها في حملته الانتخابية, أم سيجد نفسه أمام حكومة تعايش قد تقلص من مجال حركاته وقراراته؟ إن تحقق السيناريو الأول فإن الخطوات التي أقدمت عليها حكومة جان-مارك آيرو الأول قد تليها خطوات تكميلية. فقد عملت الحكومة بمبدأ التكافؤ بين الرجال والنساء، كما قلصت من راتب الرئيس والوزراء، وألغت طقوس البهرجة التي كرستها ولاية ساركوزي، مع التنقلات الباهظة على متن طائرات خاصة والقيام باستطلاعات مكلفة لخزينة الدولة. كما فتح آيرو الحوار مع النقابات الثمان الكبرى سعيا إلى وضع خطة مشتركة يتم بموجبها خلق فرص جديدة للعمل والتكوين المهني وبالأخص تجاه الشباب، إيقاف نزيف إغلاق المصانع وتسريح العمال، الزيادة في الحد الأدنى للأجور الخ... وفي استطلاع للرأي أجراه معهد هاريس نشرته صحيفة لومانيتي، يرى 58% من الفرنسيين أن الشغل يجب أن يكون في صدارة المواضيع التي تجب مناقشتها خلال اجتماع الوزير الأول بالمنظمات النقابية والمنظمات الممثلة للباطرونا. النقطة الثانية التي جاءت في اهتمام المستطلعين هي القدرة الشرائية بنسبة 41% والمنافسة التي يجب أن تخوضها المؤسسات الفرنسية (36%). تأتي بعد ذلك قضايا التقاعد بنسبة 33%، النمو (27%)، ظروف العمل (24%)، والحد الأدنى للأجور (18%). وفي نظر 92% من الأشخاص الذين شملهم الاستطلاع، فإن هذه الاستشارات والمفاوضات الأولية حول الأوراش الاجتماعية الكبرى، قبل «المؤتمر الوطني الاجتماعي» المزمع إجراؤه في شهر يوليوز القادم، هي خطوة إيجابية. ويبقى ملف التقاعد ابتداء من 60 عاما بدل 62 الذي سيطرحه الوزير من بين الملفات الحساسة. المهم أن الحزب الاشتراكي وحلفاءه يتقدمون لهذه الانتخابات بمجموعة من الإنجازات الأولية بعضها رمزي والبعض الآخر عملي. فهل سيوفر الفرنسيون لليسار هامشا مريحا وذلك بالتصويت على مرشحيه يوم العاشر والسابع عشر القادم؟ ستجيب الأيام القادمة على هذا السؤال. في انتظار ذلك، تدخل الرئيس فرانسوا هولاند على القناة الثانية وهي المرة الأولى التي يقدم فيها جردا أوليا لمنجزاته كرئيس للجمهورية لتوضيح ورقة، بل خطة الطريق القادمة. وهذه الإطلالة هي بمثابة دعوة للفرنسيين لتعزيز الفوز الذي أنجزه في السادس ماي. ويتوقع خبراء الانتخابات التابعين للحزب الاشتراكي أن يحرز اليسار على أغلبية تتراوح بين 310 و 330 مقعدا. لكن في حالة حصول الاشتراكيين والخضر على الأغلبية فإن ذلك سيكون إنجازا حقيقيا، أما إذا استعانوا بأصوات جبهة اليسار، فإن الفوز سيكون جزئيا بحكم دخول الطرفين في نقاشات بيزنطية قد تشوش المشاريع التي يعتزم فرانسوا هولاند إنجازها. على مستوى الاستراتيجية الدعائية قرر الحزب الاشتراكي التصدي للصيغة الحزبية التي يرفع لواءها جان-فرانسوا كوبيه، السكرتير العام للاتحاد من أجل حركة شعبية والذي ينظر إليه كرجل «عدواني» يجب إيقافه بسرعة. وعلى مستوى آخر وحسب استفتاء أجراه معهد إيبسوس فإن اليسار البرلماني (الحزب التشريعي، الحزب الراديكالي اليساري، جبهة اليسار والخضر)، يحتلون صدارة الترتيب في الانتخابات التشريعية ب 45% فيما قد يحصل اليمين على 35% في الدور الأول . كما عبر 56% عن رفضهم لحكومة تعايش بين اليمين واليسار. ونفس النسبة أعربت عن رغبتها في نجاح اليسار. أما الجبهة الوطنية فقد تحصل على نسبة 15 في المائة. فيما تحصل جبهة اليسار على 8 في المائة. بمعنى أن «الموجة الوردية» ليست مرتقبة ومن الصعب وقوعها خلال هذه الانتخابات. أو بعبارة أخرى، فإن اليسار لن يحصل على الأغلبية المطلقة وبذلك سيكون مضطرا للتعايش مع باقي قوى اليسار. إن شاركت بعض رموز هذا الفصيل أمثال الخضر والراديكاليين في الحكومة، فإن جبهة اليسار وبالأخص زعيمها جان ليك ميلنشون لا يرغب في المشاركة في الحكومة. وقد عبر عن هذا الموقف منذ البداية. تشرذم اليمين وحزب الزعامات أما اليمين ممثلا في حزب الاتحاد من أجل حركة شعبية فيتقدم لهذا الاقتراع في وضعية تشرذم معنوي وبنيوي بعد أن فجر الوزير الأول الأسبق، فرانسوا فيون، قنبلة من العيار الثقيل، لما طرح ترشحه لقيادة الحزب. ذلك أنه بعد أسبوعين على هزيمة المعسكر الساركوزي، كان المناضلون يترقبون من القيادة العامة الإبقاء على الخطة الهجومية التي سطرها زعيمهم في أجواء من التعاضد والوحدة وذلك بهدف خوض الاستحقاق الاشتراعي. لكن شيئا من ذلك لم يتم. إذ بمجرد اختفاء ساركوزي من المشهد حتى استلت الخناجر وارتسم معسكران إثنان: معسكر جان-فرانسوا كوبيه، السكرتير العام الحالي للحزب، ومعسكر فرانسوا فيون، الذي يتكئ على تجربته كوزير أول عمل لمدة خمس سنوات إلى جانب نيكولا ساركوزي. وفي المقابلة التي خص بها أسبوعية لوفيغارو ماغازين، أشار فيون، إلى أنه «بعد «اعتزال» ساركوزي لا يوجد زعيم طبيعي يسير الحزب». وكانت هذه المقابلة النقطة التي أفاضت كأس الاتحاد من أجل حركة شعبية والتي دفعت ببعض رموز الحزب الأخرى إما لمساندة كوبيه أو فيون وإما للإبقاء على حيادها مثل آلان جوبيه، وزير الشؤون الخارجية الأسبق، الذي دعا إلى ترك الخلافات هامشا والانشغال أساسا بالانتخابات التشريعية. كان ساركوزي الدرع الواقي والأمين الذي وفر مناعة للجهاز. وكان بمثابة طاغية انهار، برحيله، الصرح الذي شيده. وعليه، وفي غيابه وفي غياب نقد داخلي لطرق تسييره للحزب ونقد للساركوزية إجمالا، فإن الحزب مرشح لمزيد من التشرذم ولحرب الزعامات. والرهان الذي يخوضه الحزب في هذا الاستحقاق الرئاسي هو رهان دو حدين: إما سيكرس مصداقية بعض شخصيات الحزب وإما سيكون مقبرة لها. ومن بين شخصيات الحزب المرشحة التي توجد على فوهة بركان، هناك جان-فرانسوا كوبيه، السكرتير العام للحزب والذي يوجد في وضع منافسة حادة مع مرشحة الجبهة الوطنية ماري كريستين آرناتو، وتشغل منصب نائبة رئيسة الحزب. وفي حالة هزيمته، فسيفتح الباب على مصراعيه لفرانسوا فيون الذي يخوض المعركة في المقاطعة الواقعة تحت نفوذ رشيدة داتي، والتي لن تتردد في القيام بدعاية مضادة لكسر أجنحته، وذلك على خلفية إزاحتها من قائمة المرشحين بهذه المقاطعة. الشخصية الثانية للحزب التي توجد في عين الإعصار، هي ناتالي كوزيوسكو موريزي، الناطقة الرسمية سابقا باسم حملة ساركوزي والتي نطقت بالكثير من الترهات خصوصا في حق المسلمين. وقد أدى ساركوزي ثمن ذلك بحصول هولاند على نسبة 53,4% في الدور الثاني من الاقتراع في المقاطعة التابعة لها. وتوجد شخصيات أخرى في وضع مأزقي مثل لوران فوكييه، وزير التعليم العالي سابقا، هنري غينو، محرر خطابات ساركوزي، غزافييه بيرتران الخ... تأجيل المجابهة إلى ما بعد الانتخابات وإلى ما بعد الانتخابات، قرر جان-فرانسوا كوبيه وفرانسوا فيون وضع الخلافات هامشا لإنقاذ ما يمكن إنقاذه. وخلال المناظرة التي نظمها الحزب بمشاركة 100 إطار من الحزب في باريس، أطلق كل من كوبيه وفيون النار على فرانسوا هولاند وحكومته لإظهار بأن فوز الحزب في هذه الانتخابات ممكن بعد «الهزيمة القصيرة» لساركوزي. وإن تجنبا في كلمتهما أمام أطر الحزب، الإشارة إلى صراع الزعامة بينهما فإن بعض المناضلين تفوهوا أمام الصحفيين ضد فرانسوا فيون ليتهموه بنشر التفرقة داخل الحزب في لحظات حرجة تتطلب رص الصفوف. وقد تدخل آلان جوبيه لإصلاح ذات البين بين الرجلين ودعوتهما إلى عدم خلط الأجندة والتفكير من الآن في رئاسية 2017. وقد ركز فيون انتقاداته اللاذعة على الاشتراكيين متهما إياهم ب«البساطة المزيفة». وفي تصريح لاذع أشار إلى أن «ثمة تسابق بين الوزراء الاشتراكيين بين الذي يتنقل مستعملا النقل العمومي الرخيص وبين من يسافر على متن القطار إلى بروكسيل أو يتنقل عبر الميترو وهو يرتدي سروال دجينز.». واعتبر أن ذلك لا يعدو مجرد فلكلور لذر الرماد في العيون.
ماذا يعد اليمين المتطرف؟ مرة أخرى تطرح المفاجأة التي يمكن أن تحدثها الجبهة الوطنية بزعامة مارين لوبين. إن كانت استطلاعات الرأي تتكهن لها بنسبة 15 في المائة، فإن المنظمة المتطرفة قادرة كما حصل في الاقتراع الرئاسي على إفشال كل التكهنات وخلط الأوراق. خصوصا وأن مارين لوبين توعدت بتفجير حزب الاتحاد من الداخل وامتصاص أصواته في الانتخابات القادمة. فمن غير المستبعد أن يصوت فصيل اليمين الشعبي، لصالح مرشحي الجبهة الوطنية. فهم يقاسمونها نفس الأفكار: طرد الأجانب، استثناؤهم من المساعدات الاجتماعية، إعطاء الأسبقية لمن يسمونهم بالفرنسيين الأصليين، توفير فرص الشغل للفرنسيين قبل غيرهم، الخ...ولا زالت جيوب المقاومة تنشط بقيادة عمدات محسوبين على اليمين الشعبي مثل كريستيان إيستروزي، عمدة مدينة نيس الذي أثار ضجة مؤخرا بمنعه إطلاق الزغاريد ومزامير السيارات وتنشيط حفلات الزفاف التي يقيمها المغاربيون والتي «تزعج السواح الأجانب الوافدين على المدينة التي تعتبر منتجعا سياحيا فاخرا. والغاية من هذا الحظر انتخابي وسياسي أساسا، ألا وهي استمالة الناخبين لإعادة انتخابه في الاقتراع التشريعي لقادم.!