ارتدت فرنسا، في الأيام الماضية، اللون الوردي، رمز الحزب الاشتراكي، إثر تحقيق الحزب لنصر كبير في الجولة الثانية من الانتخابات التشريعية التي جرت يوم الأحد الماضي، وهو ما سيسمح لفرانسوا هولاند وحكومته بتنفيذ برنامجه وتعزيز موقفه في «المعارك» القادمة. وفاز الحزب الاشتراكي ب341 مقعدا في الجمعية الوطنية، في حين مني حزب الرئيس السابق نيكولا ساركوزي، «الاتحاد من أجل حركة شعبية» بخسارة كبيرة. كما دخل اليمين المتطرف إلى الغرفة التشريعية من خلال مقعدين يعود احدهما إلى حفيدة الجبهة جون ماري لوبان. توزع اهتمام الناخبين الفرنسيين يوم الأحد الماضي بين حالة الطقس الرديئة، مباريات الأورو لكرة القدم وصناديق الاقتراع. وجاءت وفاة المعلق الرياضي تييريه رولان لتأخذ أحيانا حيزا وافرا من تعاليق الإعلاميين على حساب متابعة تصويت الناخبين. ولربما يفسر هذا الانشطار النسبة المرتفعة للامتناع عن التصويت والتي قاربت 44% وهي أعلى نسبة في تاريخ الانتخابات الفرنسية. على أي مع فرز النتائج الأولية، بدأت خارطة فرنسا تأخذ شكلا ورديا إلى درجة حديث بعض المعلقين لا فحسب عن موجة بل عن «محيط وردي»، غمر مجموع مناطق وجهات فرنسا. وهي المرة الرابعة في تاريخ الجمهورية الخامسة التي يحقق فيها اليسار مثل هذا الإنجاز. كانت المرة الأولى عام 1902 وآخر مرة عام 1981 تحت رئاسة فرانسوا ميتران. وتتقدم النتائج النهائية على الشكل التالي: حصل اليسار على 341 مقعدا من بين 577 بنسبة 46,7% من الأصوات مقابل 34,1% لليمين. وقد حصل الحزب الاشتراكي لوحده على 291 مقعدا، وهو اليوم بغير حاجة إلى أصوات اليسار والخضر في حالة التصويت على القرارات المصيرية بالبرلمان. يبقى السؤال: هل سيحكم الاشتراكيون لوحدهم البلد أم سيوسعون المجال السياسي لاحتضان المزيد من سياسيي اليسار ومن الشخصيات حتى لا يتهمون بممارسات ستالينية أوانفرادية؟ بعد الحزب الراديكالي والخضر هل يفسح المجال للحزب الشيوعي للمشاركة في حكومة إيرو الثاني؟ هذا يتوقف على الحزب نفسه الذي سيحسم المسألة في اجتماع للمكتب السياسي لهذا الأسبوع. معطى آخر هو فوز جميع وزراء حكومة جاك-مارك إيرو، وهو إنجاز لا يستهان به. مما يعني أن آيرو الثاني الذي مدد فرانسوا هولاند في مهمته سيدخل تعديلات تقنية على الحكومة الجديدة التي يقترحها اليوم الخميس على رئيس الدولة، مما يعني أنه لن يغير الطاقم الذي عكف على إعداد الملفات المستعجلة التي سينكب على الحسم فيها قبل عطلة الصيف رئيس الجمهورية. اليسار مطالب بتقييم نتائجه أما الخضر فحصلوا على 20 مقعدا برلمانيا وهي نتيجة مشرفة مقارنة بالنتيجة التي أحرزت عليها مرشحة الحزب إيفا جولي في الانتخابات الرئاسية ومقارنة بالمقاعد الأربعة التي كانت بحوزتهم في البرلمان السابق. وبهذا العدد سيتمكنون من تشكيل فريق نيابي. إلى غاية اقتراع الدور الثاني، تقدم اليسار موحدا وبشعارات واضحة في قضايا عدم المهادنة مع اليمين المتطرف والحفاظ على القيم الجمهورية. ولأول مرة يتعزز هذا الإجماع من حول المبادئ السياسية والأخلاقية التي سطرها فرانسوا هولاند. وهذا الإجماع يعتبر لوحده مكسبا لقوى اليسار. لكن إن حصن الحزب الاشتراكي مواقعه، فإن شركاءه مطالبون اليوم بالقيام بجرد لحساباتهم والوقوف عند الخلل الحاصل في استراتيجيتهم وبالأخص لجهة جبهة اليسار بزعامة جان ليك ميلنشون. فالرجل الذي خلق من حوله موجة من التعاطف في مجموع فرنسا بتقديمه لبرنامج مناهض لليبرالية المتوحشة، لم يتردد ضمن خرجاته في الهجوم على فرانسوا هولاند. لكن تبين على محك الواقع أن أفكار ميلنشون إما يوطوبية وإما متقدمة على زمانها. لكن هزيمته بهينان بومان بشمال فرنسا، أثرت على موقعه داخل جبهة اليسار، إذ تراجعت تمثيلية الحزب الشيوعي الفرنسي في البرلمان من 19 إلى 10 نواب مع صعوبة تشكيل فريق برلماني وهي المعركة التي سيخوضها الحزب لتحقيق ذلك. هزائم الأقطاب الوازنة إن كانت هزيمة جاك-ليك ميلنشون قد خلقت الحدث داخل جبهة اليسار خلال الجولة الأولى، فإن هزيمة سيغولين رويال في الجولة الثانية خلقت رجة عاطفية وسيكولوجية داخل الحزب الاشتراكي. فقد التف الناخبون بمدينة لاروشيل بغرب فرنسا من حول المرشح الاشتراكي أوليفييه فورلاني، الذي واجه سيغولين رويال رافضا الانسحاب لصالحها كما طالبه بذلك الحزب الاشتراكي. وقد حصل المرشح المنشق بالضربة القاضية على نتيجة 63% مقابل 37% لصالح رويال. تحولت المواجهة إلى «سيكودراما» تدخلت فيها رفيقة الرئيس فرانسوا هولاند بتغريدة على التويتر لمناصرة فورلاني، فيما نددت رويال بما أسمته « الخيانة» التي حاكتها أطراف عديدة لإسقاطها. وإن صرحت رويال بأنها لم تنته سياسيا فإن مستقبلها السياسي أصبح للحقيقة بين قوسين بل في مهب الريح. هل ستقفز على رجليها لقيادة الحزب الاشتراكي بعد انسحاب مارتين اوبري، أم ستعهد إليها بمسؤوليات خارج فرنسا؟ المهم أنها غير مستعدة للانسحاب من المشهد السياسي نهائيا. رئاسة البرلمان من نصيب امرأة؟ وتصر العديد من الشخصيات النسائية من الحزب الاشتراكي على أن تعود رئاسة مجلس النواب لامرأة. وهذا ما أشارت إليه إليزابث غيغو، وزيرة العدل سابقا، وسليلة مدينة مراكش، التي اقترحت ترشيحها لهذا المنصب. من جهته، إن لم يسجل الاتحاد من أجل حركة شعبية خسارة فادحة، فإنه مني بهزيمة أصابت بعض أقطاب الساركوزية، الذين أدوا ثمن سياسة المحاباة لأطروحات الجبهة الوطنية المتطرفة. فقد حصل الحزب على 212 مقعدا، بعد أن سجل في انتخابات 2007 نصرا ساحقا بحصوله على 328 مقعدا. اعترف أقطاب اليمين الكلاسيكي بهزيمتهم وبدأت من داخل صفوف الحزب تأويلات الهزيمة بسبب تبني أطروحات اليمين المتطرف لاستجلاب أصوات ناخبيه. وكان فرانسوا باروان، وزير الاقتصاد في حكومة فرانسوا فيون، الذي أعيد انتخابه نائبا برلمانيا، أول من أحدث هذه المقارنة. وفي هذا الاتجاه «عاقب» الناخبون بعضا من دعاة هذا التقارب. أول الخاسرين كان كلود غيان، وزير الداخلية الأسبق الذي هزمه ناخبو اليمين بالتصويت على مرشح من حزبه أكثر انفتاحا. الخاسرة الثانية كانت نادين مورانو، التي لم تتردد في مغازلة الجبهة المتطرفة إلى درجة تصريحها أنها تتقاسم وإياها نفس القيم. ميشال آليو ماري، وزيرة الخارجية سابقا والتي ارتكبت هفوات قاتلة خلال الثورة التونسية، خسرت الرهان بدورها. المهم أن اليمين فقد ريشه. وفي انتظار أن ينعقد مؤتمر الحزب في شهر نوفمبر القادم، هل ستخف حدة حرب الزعامات بين الأقطاب الثلاثة التي طرحت ترشيحها لتسيير الحزب: جان-فرانسوا كوبي، فرانسوا فيون، وآلان جوبيه؟ وفي انتظار هذه المعركة اقترح جان-فرانسوا كوبي قائد معسكره كريستيان جاكوب لترؤس المجموعة النيابية لحزب الاتحاد بالبرلمان، في الوقت الذي دافع فيه فرانسوا فيون عن ترشح غزافييه بيرتران المقرب منه. وفي انتظار الحسم في هذه المعارك، شرع كل طرف في تشكيل اللوبيات لاستمالة قواعد الحزب لهذا المرشح أو ذاك. المطروح اليوم على حزب ساركوزي إن رغب البقاء في المشهد السياسي أن يوضح مواقفه لجهة التعاطي مع أفكار الجبهة الوطنية المتطرفة، مع إعداد مشروع سياسي يقطع مع الموروث الساركوزي ويأخذ بعين الاعتبار أن فرنسا أصبحت اشتراكية ولم تعد ساركوزية.
الجبهة الوطنية كانت الجبهة تطمح في الحصول على 20 مقعدا برلمانيا. لكنها ستكتفي باثنين. فتاة في 22 ربيعا ( ماريون ماريشال لوبين، حفيدة جان-ماري لوبين)، ومحامي قلب معاطفه بين التيارات والأحزاب قبل أن يجد ضالته في الجبهة الوطنية، هو الأستاذ جيلبير كولار، النائب البرلماني عن جهة لوغار، وهي المنطقة الواقعة بجنوب فرنسا والتي تعرف تناميا متسارعا لأفكار الجبهة المتطرفة. وكانت المفاجأة هي هزيمة مارين لوبين بمدينة هينان-بومان بعدما فازت في الجولة الأولى على جان-ليك ميلنشون بالضربة القاضية. ومن غريب المفارقات أن مارين لوبين حولت هزيمتها إلى انتصار مشددة على صواب خطها السياسي. المهم أنه بعد 26 عاما من الغياب عن البرلمان تعود الجبهة من جديد وسيكون حضورها لخلق الجلبة وتمرير أفكار عنصرية. تمثيلية النساء المكسب الذي عززه انتخاب فرانسوا هولاند رئيسا للجمهورية، من بين مكاسب عديدة، هو بروز المرأة كعنصر فاعل في الحياة السياسية. وجدت هذه الرغبة ترجمتها في تعيين 17 امرأة في حكومة جان-مارك إيرو، ثم في الحضور الوازن للعديد من المرشحات في الانتخابات النيابية. وقد أفرزت نتائج الجولة الثانية انتخاب 155 نائبة برلمانية. سترفع هذه النتيجة بالكاد من تصنيف فرنسا دوليا وذلك على مستوى التكافؤ بين الرجال والنساء. لسنا في نفس الوضع الذي تعيشه دول أوروبا الشمالية لكن ثمة تقدم لا يستهان به. هكذا قفزت فرنسا من الصف 69 إلى الصف 34. كما أنه لا مجال للمقارنة مع نسبة 18,5% التي سجلتها تمثيلية النساء عام 2007 فيما بلغت النسبة الجديدة 26,86% . الملاحظ أن الأحزاب ليست متساوية على مستوى تمثيلية النساء. إذ يأتي الحزب الاشتراكي طبعا على رأس الأحزاب «التكافؤية» بنسبة 45 في المائة من تمثيلية النساء، بانتخاب 106 نائبات برلمانيات من بين صفوفه. من بين 17 نائبا عن حزب الخضر، نجد 9 نساء. وقد قدم الحزب لائحة بالتساوي بين الرجال والنساء. نفس التكافؤ نجده داخل الجبهة الوطنية. أما الورقة الحمراء فترجع لحزب الاتحاد من أجل حركة شعبية الذي يبقى تجمعا يطغى عليه الرجال. إذ خصص الربع من المناصب للنساء فقط. أما أحزاب الوسط فيأتي في آخر القائمة إذ لم يدمج بعد في معجمه السياسي كلمة تكافؤ.
ماذا بعد «الاكتساح»? بعد أن وفر الفرنسيون لفرانسوا هولاند أغلبية مطلقة، كما كانت رغبته، فالكرة في ملعبه وعليه أن ينجز ما توعد به لتحسين معاشهم ومواجهة الأزمة. والآن إلى العمل. الفرنسيون يترقبون الحلول التي سيقترحها الحزب الاشتراكي لحل الأزمة. وإن تلكأت الحكومة في حلها فإن الفوز الذي حققه الاشتراكيون قد يرتد ضدهم. وتلك قاعدة ذهبية يعرفها الاشتراكيون جيدا. فقد سلم الفرنسيون المفاتيح لفرانسوا هولاند لكن عليه تصحيح الإرث الثقيل الذي خلفته 5 سنوات من التسيير والتبذير العشوائي لساركوزي. وأول تحد تواجهه الحكومة اليوم هي الانتكاسة في المجال الصناعي. أكد ذلك التحقيق الذي نشره يوم الثلاثاء الماضي المعهد الوطني للإحصاء والدراسات الاقتصادية والذي أوضح أن دفتر الطلبات على المنتوجات الفرنسية لم يحرز تقدما وسيعرف النشاط الاقتصادي للأشهر القادمة وضعية صعبة. ومن بين القطاعات التي قد تتضرر مباشرة من هذا الانخفاض قطاع السيارات، الصناعة الفلاحية والزراعية، قطاع الصيدلة، والتجهيزات الإلكترونية، وقطاع البناء الخ...إنها أوراش موحلة ستدخل غمارها الحكومة الجديدة، ولا ندري هل ستخرج منها نظيفة !