النظام السياسي الدولي يمارس الازدواجية حتى إزاء المفهوم الواحد. فمثلا، الحصانة الدبلوماسية مطلوبة ومحمية هنا، ولكنها منتهكة ومرفوضة هناك. وثمة لغط كبير حول أزمة لجوء أسانج إلى سفارة الإكوادور وتهديد الشرطة باقتحامها. والمعروف أن سفارات الدول تتمتع بحصانة دبلوماسية ولا يحق لأحد اقتحامها بالقوة، سواء الشرطة أو غيرها. ولكن البريطانيين ألمحوا في بداية الأزمة إلى أن من حقهم ذلك لاعتقال أسانج وتسليمه إلى السويد التي تطالب به بدعاوى يقول أنصاره إنها كيدية تم تزييفها ضده، مفادها أنه اعتدى على فتاة بأحد الفنادق العام الماضي. والسؤال هنا: ما حدود الحق الدبلوماسي؟ من المؤكد أن السجال سوف يحتدم حول هذه المسألة، خصوصا لسبب علاقتها بحادثة أخرى وقعت في عام 1984 عندما أطلقت النار من داخل السفارة الليبية على محتجين خارجها، أدى إلى قتل الشرطية إيفون فليتشر. يومها قيل إن السلاح الذي استخدم لقتل الشرطية تم إدخاله إلى السفارة باستغلال الحماية الدبلوماسية. وفي العام نفسه حدثت حادثة أخرى، وهي قيام الموساد الإسرائيلي بمحاولة تهريب رجل أعمال نيجيري (عمرو ديكو) إلى نيجيريا باستغلال الحصانة الدبلوماسية للسفارات، ولكن تم اكتشاف الصندوق الذي كان ديكو قد وضع بداخله، قبل نقله إلى الطائرة بمطار ستانستد شمال لندن. بعد هذه الحوادث أقرت بريطانيا، حسب ما يبدو، قانونا يتيح لها اقتحام السفارات في حال الجريمة الثابتة. غير أن النقاش سيأخذ منحى آخر عندما ترفض السلطات اتخاذ إجراء ضد سياسيين بحكومات صديقة أو عائلات مالكة. عندها، يتم توسيع الحصانة لتشمل أفراد تلك العائلات. ليس مستبعدا أن تكون قضية أسانج بالون اختبار للمفاهيم الدولية التي تنظم مفاهيم الحصانة، بل إن مبدأ «السيادة» هو الآخر يتعرض لامتحان صعب، فمن هو المخول بممارسة السيادة على بلد ما؟ أهو الشعب؟ أم نظام الحكم؟ ومتى يمكن أن يعتبر تدخل قوى أجنبية ما اختراقا لتلك السيادة؟ فهل استدعاء قوات أجنبية من قبل نظام الحكم، أم من قبل معارضيه ينسجم مع مبدأ السيادة؟ بمعنى، هل ممارسة هذه السيادة من حق أحد الطرفين، كل على حدة أم إن توافقهما ضروري إزاء أي موقف يتطلب استدعاء جيش أو قوات أمن من بلد آخر؟ أليس من الضروري أن يدلي الشعب برأيه في مثل هذه الحالة؟ مشكلة العالم المعاصر أن الدهاليز السياسية والقانونية تحول أحيانا دون طرح تعريف دقيق لأي من المفاهيم، حتى تصبح المفاهيم والقيم نسبية وليست مطلقة. يعتقد البعض أن هذا التشوش مرتبط بثقافة ما بعد الحداثة التي تركت بصماتها حتى على القيم السياسية التي تعتبر من معالم النظام السياسي بعد الحرب العالمية الثانية. كيف نستطيع فهم ظاهرة «النسبية» في كل شيء تقريبا؟ أليست هناك قيم ثابتة في العلاقات الدولية إم إن القوي أصبح مصدر تعريف المطلق والنسبي في العلاقات والقيم والمبادئ؟ إذا كان الأمر كذلك فسيكون من السهل تفسير تصرفات ظاهرة القطب الواحد المهيمن على النظام السياسي العالمي حاليا، فهو الذي يحدد الصحيح والخطأ في العلاقات والتصرفات؛ فيصبح دعم نظام استبدادي أمرا مقبولا ومتوافقا عليه، بينما يتم تجريم معارضيه واتهامهم بالتطرف، وربما الإرهاب. وبهذه السياسة، تصبح منظومة حقوق الإنسان والقوانين الدولية التي تنظمها غير ذات معنى. فالمعذبون إنما ينفذون أوامر السياسيين ذوي الحصانة الدبلوماسية الذين لا يسمح النظام الدولي بمقاضاتهم. ولذلك يصبح النظام السياسي بمنأى عن المحاسبة ولا يعود المدافعون عن حقوق الإنسان محميين من بطش النظام السياسي الذي تحميه الدول التي تتشدق بحقوق الإنسان، ولكنها انتقائية في ما تطبق أو تحميه منها. الأمر المؤكد أن العالم يشهد أزمة أخلاق وسياسة وحقوق، ولم تستطع المنظومة الحقوقية التخفيف كثيرا من معاناة ضحايا الأنظمة القمعية، خصوصا مع وجود التفسيرات والتطبيقات المختلفة لمبادئ السيادة والحصانة الدبلوماسية وحقوق الإنسان؛ فمن يستطيع أن يقاضي الرئيس الأمريكي السابق، جورج بوش، بعد اعترافه بأنه سمح لجنوده وأجهزة أمنه واستخباراته بتعذيب سجناء غوانتنامو بطريقة «الإيهام بالغرق» ونظم رحلات سرية لنقل سجناء القاعدة بين عواصم يمارس العديد منها التعذيب كإجراء روتيني مع السجناء؟ الحصانة الدبلوماسية تضمن عدم ملاحقة أو محاكمة الدبلوماسيين تحت طائلة قوانين الدولة المضيفة، وقد تم الاتفاق عليها كقانون دولي في مؤتمر فيينا للعلاقات الدبلوماسية الذي عقد في 1961. الأمريكيون يمارسون حصانة إضافية يمنحونها لأفراد قواتهم المسلحة، بمنع الدول الأخرى من محاكمتهم في محاكمها إذا ما اقترفوا جريمة على أراضي تلك الدول. وهذه الحصانة ممنوحة من قبل أغلب الدول العربية، وليس هناك بلد عربي سوى العراق أسقط حصانة القوات الأمريكية. هذه الحصانة هي التي دفعت الإمام الخميني إلى القيام بثورته الأولى في 1963 عندما أقر البرلمان الإيراني في عهد الشاه منح الجنود الأمريكيين حصانة خاصة، وهو القانون الذي أطلق عليه «قانون الاستسلام». هذه الحصانة لا يشار إليها في وسائل الإعلام العربية من قريب أو بعيد، مع العلم بأن من حق الأمريكي أن يقاضي المواطن العربي لو ارتكب مخالفة بحقه. كانت هناك حتى عهد قريب دولتان أوربيتان تسمحان بمقاضاة مسؤولين بدول أخرى في قضايا التعذيب، هما بلجيكا وإسبانيا. ولكن ضغوطا كبيرة مورست عليهما، فقامتا بتغيير قوانينهما التي تسمح بذلك. وقد سبق لبريطانيا منع بعض المسؤولين الإسرائيليين من دخول أراضيها بعد أن رفع ضحاياهم قضايا ضدهم في المحاكم، ولكن وزير الخارجية، ويليام هيج، تعهد بتغيير القوانين التي تسمح بذلك. مما تقدم، تتضح العلاقة بين مبادئ الحصانة الدبلوماسية والمواقف السياسية للدول؛ فالحصانة نسبية وظرفية، فيمكن منحها أو سحبها. قبل ستة شهور، طلبت دول الخليج من جماعة الإخوان المسلمين في مصر منح الحصانة لأعضاء المجلس العسكري كخطوة على طريق المصالحة. وقال جهاد الحداد، وهو أحد مستشاري جماعة الإخوان البارزين: «تبنت سفارات أجنبية هذا الخيار كحل. وهم لا يطلبون منا فقط أن ندرسه، بل يقولون إنه قد يكون الطريقة الوحيدة». هذا رغم أن ذلك المجلس مسؤول عن إطلاق النار على المحتجين وقتل بعضهم خلال حكم مبارك وبعده. الأمر المؤكد أن الحصانة لا تنسجم مع العدالة أو المساواة في المعاملة بين البشر؛ فبأي مبرر يعطى شخص ما، أيا كان موقعه، حصانة من العقاب إذا اقترف ذنبا؟ لماذا يتمتع «علية القوم» بالإفلات من طائلة القانون، بينما يطبق على بقية البشر؟ لماذا يصر الأمريكيون على حصانة مواطنيهم من قضاء الدول الأخرى؟ لقد فتح لجوء أسانج إلى سفارة الإكوادور، ومن ثم منحه حق اللجوء السياسي، ورد فعل السلطات البريطانية مجالا واسعا لمناقشة إشكالية الحصانة، خصوصا بعد ردة الفعل الغاضبة التي أبدتها بريطانيا وحالة التخبط إزاء ما يمكن عمله لحرمان أسانج من الاستفادة من تلك الحصانة. لقد أصبح عليه أن يدفع فاتورة تمرده على المؤسسة الإمبريالية وسعيه إلى كشف أسرارها عبر موقع «ويكيليكس»، وبذلك تغيرت مفاهيم الحصانة لمنعه من الاستفادة منها.