وضعت الحكومة البريطانية نفسها أمام ورطة كبيرة ستمس بصورة المملكة المتحدة كملاذ للاجئين الفارين من الظلم والباحثين عن حصانة دولة الحق والقانون. فقد أصرت الحكومة البريطانية على لسان وزير خارجيتها وليام هيج على اعتقال جوليان أسانج، مؤسس موقع "ويكيليكس" المثير للجدل وتسليمه للسويد كما أقر بذلك القضاء البريطاني. بل وذهب وزير خارجية أعرق دولة ديمقراطية في العالم إلى حد التهديد باقتحام سفارة الاكوادور في لندن، وهي المكان الذي فر إليه أسانج ومنحته دولته حق اللجوء السياسي. فقد صرح هيج بأن حكومته لن تمنح أسانج ممرا آمنا للخروج من البلاد وانها تصر على تسليمه الى السويد التي تطلبه لاستجوابه بشان اداعاءات تتعلق باعتداء جنسي. إلى هنا يبدو موقف الحكومة البريطانية منسجما مع القانون، فهي تسعى إلى تطبيق قرار صادر عن القضاء البريطاني المعروف بنزاهته واستقلاليته، لكن المفارقة هي أن تنفيذ هذا القرار قد يكون على حساب القانون الدولي الذي يضمن حصانة مقرات السفارات والبنايات الدبلوماسية. يقول وزير الخارجية البريطاني في الدفاع عن اصرار حكومته على اعتقال أسانج بأن قانون بلده لا يسمح بمنح ممر آمن للخروج من المملكة المتحدة لشخص مطلوب من طرف العدالة، قبل أن يضيف بأن "المملكة المتحدة لا تعترف بمبدأ اللجوء الدبلوماسي."! ورغم محاولة هيغ إعطاء طابع قانوني لقرار حكومته، إلا أنه لايستطيع إخفاء الجانب السياسي في قضية أسانج المطلوب دوليا من قبل حكومة الولاياتالمتحدةالأمريكية بسبب ما سببه نشره لملايين الوثائق الدبلوماسية الأمريكية من ضرر لحق بسمعة وصورة دبلوماسية أقوى دولة في العالم. وما يفضح أكثر مفارقات قرار الحكومة البريطانية هي تعاملها مع حالة سابقة أكثر إحراجا من حالة اسانج متجاوزة كل القواعد القانونية التي تبرر بها اليوم إصرارها على اعتقال من بات يوصف بأنه "مقاتل الحرية". ففي سبتمبر 1998 توجه الدكتاتور التشيلي السابق أوغوستو بينوشي إلى لندن للعلاج ليفاجأ بطلب إسباني من الحكومة البريطانية بتسليمه إليها للمثول أمام القضاء لمحاكمته عن جرائم قتل واغتيال كان ارتكبها ضد مواطنين يحملون الجنسية الإسبانية، مما اضطر الدكتاتور إلى الاحتماء بسفارة بلده بلندن. وبدلا من أن تصر الحكومة البريطانية كما تفعل اليوم مع أسانج، على تسليمه وتهدد سفارة التشيلي بالاقتحام لإعتقاله، خرجت مارغريت تاتشر رئيسة الوزراء آنذاك تحث الحكومة البريطانية على رفض الطلب الإسباني بحجة أن بينوشيه يتمتع بحصانة كرئيس سابق تمنع تسليمه أو محاكمته. بل وذهبت تاتشر في تحديها لكل الديمقراطيين في العالم ولضحايا الدكتاتور من اسبان وتشليين، إلى زيارة الدكتاتور في ملاذه بمقر سفارة بلده والتقطت صورة تذكارية لها معه أمام مقر السفارة (انظر الصورة) في استفزاز سافر لكل الأصوات التي كانت تطالب بتسليم الدكتاتور التشيلي للمحاكمة في اسبانيا. ظل الدكتاتور محتجزا في سفارة بلده في لندن 503 أيام سمح له بعد ذلك بالعودة الآمنة إلى تشيلي بحجة الأسباب الإنسانية. وقبل أيام تداولت وكالات الأنباء العالمية حضور الجنرال حسني بنسليمان، قائد الدرك المغربي، إلى لندن على رأس اللجنة الأولمبية لبلاده، وذلك بالرغم من وجود مذكرة بحث دولية وضعها ضده قاضي فرنسي يطلبه للاستماع إليه في قضية اختفاء واغتيال المعارض المغربي السابق المهدي بنبركة في باريس عام 1965 في ظروف مازالت غامضة. وحسب ما اوردته بعض المواقع الالكترونية فقد لجأ الجنرال المغربي إلى سفارة بلده في لندن خشية اعتقاله قبل عودته سالما إلى بلده. فكيف غفلت الحكومة البريطانية عن هذه القضية التي تتقاطع من حيث حيتياتها مع قضية أسانج، فكلا الرجلين: أسانج وبنسليمان، مطلوبان من قبل جهات قضائية للاستماع إليهما في قضايا معروضة على القضاء. وكلاهما لجأ إلى مقر هيئة دبلوماسية للاحتماء بها. لكن المفارقة تكمن في تصرف الحكومة البريطانية التي تغاضت عن وجود شخص مطلوب للقضاء على أرضها (بنسليمان)، بل ودافعت وحمت شخصا آخر مطلوب للعدالة وساعدته على الإفلات منها (بينوشي)، فيما نراها اليوم تصر، وتتدرع بالقانون لاعتقال شخص إسمه اسانج بات رمزا للحرية، لكنه يوجد معتقلا في بلاد الحرية!