بعد خروج الديكتاتور التشيلي «بينوتشي» من مستشفى لندن، استضافته الوزيرة السابقة «مارغريت تاتشر» لشرب الشاي، ربما امتنانا له على الخدمات التي قدمها إلى بريطانيا أثناء الحرب مع الأرجنتين حول جزر «المالوين» والتي ساهمت في استمرار الهيمنة البريطانية عليها. ولم يخطر ببال طاغية التشيلي أنه، في نفس الأثناء، كان هناك تنافس بين القضاء البريطاني ونظيره الإسباني من أجل التوصل إلى طريقة لاستصدار قرار ترحيل الجنرال العجوز ومحاكمته بسبب الجرائم والفظاعات التي ارتكبها في حق شعب بأكمله والفساد الذي لم يتورع عن نشره في كل ركن من أركان البلاد التي تنتعش اليوم بريح الحرية والديمقراطية. وقد خلصت أغلبية أعضاء مجلس «اللوردات»، وهي أعلى هيئة قضائية في بريطانيا وتتشكل من خمسة قضاة، إلى أن ما قام به بينوتشي من فظائع في حق شعبه لا يمكن أن يمر دون عقاب ولا يمكن للخدمات التي قدمها إلى بريطانيا ولا لتعاطف تاتشر وغيرها من المسؤولين البريطانيين معه أن يحميه من العقاب. كما أن القاضي الإسباني «بالتسار كارزون» كان متحمسا ليرى بينوتشي يحاكم ككل المجرمين، ويدفع ثمن ما اقترفته يداه ولو في آخر سنوات عمره. لكن قد يتساءل البعض منا: ما أهمية ملاحقة العجوز بينوتشي وقد جاوز الثمانين من العمر؟ ما الذي سيجنيه المجتمع التشيلي من محاكمة الطاغية بعد أن استطاع التشيليون التحرر من حكمه؟ الحقيقة أن أي مجتمع عاش طويلا تحت سلطة القمع والفساد يحتاج إلى مثل، ولو رمزيا، في متابعة رؤوس الفساد، ليس من أجل لذة التشفي الرخيصة، بل لأن القضاء العادل له القدرة على ترميم النفسية الجماعية لأي مجتمع، وله سلطة لجعل المواطنين يحسون فعلا بأن التغيير حقيقي. وهو، بالطبع، لا يستقيم دون قصاص من المفسدين. ورغم أن العديد من ضحايا النظام الفاسد قد يعوضون ماديا أو معنويا، فإن التعويض الحقيقي يتمثل في بناء جدار ثقة متين بين الناس وما يوعدون به من عهد جديد يعلو فيه صوت القانون على كل الأصوات. لقد كان جلب الرئيس التشيلي أمام المحاكم وإدانته ضربة قاضية لبقايا من «البينوتشيين»، الذين ظلوا طويلا يقاومون التغيير الذي تنعم به التشيلي اليوم، وأعطى الشرعية للقضاء التشيلي ومنحه الشجاعة لاستعادة كرامته وكرامة شعب بأكمله. فالمفروض أن القضاء يعتبر قاعدة صلبة تتكئ عليها المجتمعات التي تستعد للقطيعة مع عهود الاستبداد، ويجب عليه دائما أن يلاحِق المفسدين، ويتحايل على الممكن والمستحيل لجلبهم تحت سلطته، ويعيد إلى الناس الثقة في القانون الذي يمكن أن يحفظ لهم حقوقهم ويدفع عنهم الظلم، لأن تعرض فرد واحد أو مجموعة في المجتمع للظلم يمكن أن يزرع داخله إحساسا بالمرارة وفقدان الثقة في القانون علاوة على عدم التورع عن الاستخفاف والاستهتار به. كما أن حكما عادلا، ولو كان استثناء، يمكن أن يكون له مفعول السحر على سلوك الناس، فإطلاق يد القانون لتطال جميع فئات المجتمع على اختلاف انتماءاتها الاقتصادية والاجتماعية، يشجع على احترامه وتمجيده. الملاحقة المحمومة للقضاء الدولي لبينوتشي تعتبر، رمزيا، محاولة لرسم خط فاصل بين مرحلتين وعالمين مختلفين: مرحلة عاث فيها هذا الديكتاتور وأشباهه فسادا، متمتعين ومحتمين بالحصانة التي كانت تجنبهم المتابعة والمساءلة، ومرحلة جديدة في القانون الدولي الذي أزال هذه الحصانة عن كل رجال الدولة حين يتحولون إلى ذئاب شرسة تنهش لحم الشعوب دون رحمة. ورغم أن بينوتشي لم يصدر في حقه أي حكم حتى وفاته بسبب الاعتبارات السياسية الكثيرة وحالته الصحية، فإن قضيته كانت استكمالا لمسيرة طويلة للقضاء الدولي لتحقيق أمل العدالة الذي مازالت العديد من الشعوب المقهورة تفني العمر كله في انتظاره.