تجدد السجال حول الحصانة الدبلوماسية بعد منح جمهورية الإكوادور حق اللجوء السياسي لمؤسس موقع «ويكيليكس» جوليان أسانج، وتوترت العلاقات بين بريطانيا وذلك البلد الواقع في أمريكا الجنوبية؛ فبعد مطاردته من قبل السلطات السويدية بدعاوى قال عنها إنها «كيدية»، لجأ أسانج قبل شهور إلى سفارة الإكوادور في لندن طالبا حق اللجوء السياسي، وبقي محميا فيها حتى صدور قرار منحه اللجوء السياسي الأسبوع الماضي. ويتوقع استمرار الشد والجذب بين الحكومتين زمنا قبل أن تحل الأزمة، ولا يستبعد أن تتخذ القضية أبعادا أخرى قد تصل إلى قطع العلاقات الدبلوماسية إذا ما أصرت الحكومة البريطانية على تسليمها أسانج. وقد بدت تصدعات داخل الحكومة البريطانية التي هددت في البداية باقتحام السفارة، ثم اتخذت إجراءات أمنية مشددة وحاصرت شرطتها مبنى السفارة في منطقة نايتسبريدج. تلك السفارة أصبحت في قلب الحدث وهدفا للوسائل الإعلامية التي تبحث عن قضايا الإثارة والمواجهات بين الشرطة والمحتجين ضد المطالبة البريطانية بتسليم اللاجئ السياسي. إنها واحدة من القضايا التي تثير واحدا من أهم الأبعاد التي يحتويها ملف العلاقات الدولية، خصوصا في مجال الحصانة الدبلوماسية التي نصت عليها معاهدات جنيف منذ عقود. ويزداد السجال حول هذه القضية أهمية في ضوء تداعياتها وأبعادها، خصوصا في ظل أوضاع منطقة الشرق الأوسط، سواء المرتبطة بثورات الربيع العربي أو القضية الفلسطينية التي فشل النظام الدولي في حلها بعد أكثر من ستين عاما. السجال هنا قد يكون محصورا في النخب المثقفة والسياسية والإعلامية، ولكنه يتصل في جوهره بقضايا المواطنين العاديين، خصوصا الشعوب المطالبة بحقها في العيش الكريم. تلك الشعوب تسعى إلى العيش ضمن الأطر الديمقراطية، ومبادئ حق تقرير المصير والسيادة الوطنية، ومبدأ المساواة بين البشر وبين الكيانات السياسية في الدولة القطرية التي ما تزال تبحث عن تبريرات لوجودها. ومع التوجه الدولي نحو حالة غير مسبوقة من الاستقطاب الفكري والسياسي، ومع نشوء التحالفات الإقليمية التي عضدت الدولة القطرية، سيكون السجال حول مفاهيم العولمة والعلاقات الدولية والحصانة الدبلوماسية مرتبطا أيضا بملف حقوق الإنسان. هذا مع تراجع أهمية الملف الحقوقي تدريجيا بعد أن أصبح يتعارض مع مصالح الدول الكبرى في مرحلة الصراع الإيديولوجي، من جهة، والتنافس على المصالح والنفوذ، من جهة أخرى. ولذلك فالتعاطي مع قضية أسانج وتداعياتها الدبلوماسية يفتح الباب لإعادة النظر ليس في المفاهيم المذكورة فحسب، بل في النظام الدولي المهيمن على العالم منذ ما يقارب العقود السبعة، أي منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. والواضح أن هذا النظام يمثل مقولات تتناقض مع قيم حقوق الإنسان، منها «إرادة المنتصر» و«عدالة الفاتح» و«انتقام الغالب». فالعلاقة التي تتأطر بأوضاع أطراف غير متكافئة من حيث الحرية والقوة السياسية أو العسكرية أو الاقتصادية، لا يمكن أن تؤسس بشكل عادل، مهما حاول إعلام الأقوياء تضليل الرأي العام وإظهار «عدالة» وهمية. فإذا كانت مواثيق جنيف التي تنظم حالات الحرب والسلام وأسس العلاقات الدولية، بما فيها الحصانة الدبلوماسية، تعتبر من بين أهم ملامح النظام السياسي العالمي القائم، فإن موضوعة حقوق الإنسان، هي الأخرى، أصبحت مادة دسمة لتسويق ذلك المشروع وإضفاء الطابع الإنساني عليه. ومع زيادة الوعي المفترض لدى الشعوب، بدأت هذه المقولة تفرض نفسها في السجال السياسي بعد أن اتضح غياب الجدية الدولية للالتزام بمقتضياتها، وأصبحت في نظر ضحايا القمع السلطوي في مناطق كثيرة تفقد أثرها. فلم تعد تخفف من معاناة الضحايا في ظل أنظمة القمع بل ربما أصبحت مادة لتخديرهم. وأدركت الأنظمة القمعية أن بإمكانها انتهاك حقوق مواطنيها إلى أي مدى تريد بدون أن تخشى ردة فعل حقيقية من أحد. وفي عالم اتسم بالانتقائية في المواقف والسياسات، حتى في مجال حقوق الإنسان، أصبحت الأنظمة المدعومة من قوى الاستكبار الغربي قادرة على الاستمرار في انتهاك تلك الحقوق لأن أمريكا وحلفاءها لن يتخذوا مواقف سياسية رادعة، لأسباب عديدة: أولها، أن إيمانها بحقوق الإنسان سطحي ودعائي وليس صادقا، بدليل استخدامها التعذيب مع سجناء غوانتنامو، خصوصا أسلوب «الايهام بالغرق»، وما اعتراف الرئيس السابق جورج بوش في مذكراته بأنه أقر استعماله من قبل المحققين الأمريكيين إلا مؤشر على مدى هشاشة الإيمان الغربي بمقولة حقوق الإنسان؛ ثانيها، أنها تدرك أن توقف حلفائها عن انتهاك حقوق الإنسان، خصوصا التعذيب، سوف يشجع المعارضين على الاستمرار، وقد يؤدي ذلك إلى سقوط الأنظمة الحليفة؛ ثالثها، أنها لا تريد إزعاج حلفائها، خصوصا في منطقة الخليج في الوقت الذي تسعى فيه إلى استحصال أموال النفط في شكل عقود تسلح عملاقة؛ رابعها، أن تبني ملفات حقوق الإنسان سيضعها وجها لوجه مع الكيان الإسرائيلي الذي يعتبر من أكبر منتهكي حقوق الإنسان في العالم.