تدور في عالم اليوم حرب كونية للسيطرة على المستقبل.. مستقبل البشرية. وليس للعرب والمسلمين دور في هذا الصراع، لذلك من المرجح أن يُستعمر مستقبلهم، كما استعمر حاضرهم.. لكي يكون لنا مكان في هذا العالم لا بد من مصالحة العقل العربي -الإسلامي مع المستقبل.. وهذه السلسة محاولة لتأصيل الفكر المستقبلي في الإسلام، حيث يكون العقل المسلم قادرا على التعامل مع الزمان الآتي واستشراف المستقبل بثقة ومنهجية وعلم، دون أن يخطر بالبال أن في ذلك محذورا شرعيا.. وقدوتنا في هذا هو نبينا العظيم، عليه أزكى الصلاة والتسليم.. خاصة مع هذا الشهر الكريم.. شهر رمضان. أمر الإسلام بالتخطيط للمستقبل وبالإعداد بكل وسائل القوة وعناصرها. لكن توقع المستقبل والتخطيط له أمران لا يتعلقان فقط بمجال الاعتقاد والعمل، بل أيضا بالأدب.. وقد نبّهنا نبينا العظيم إلى مجموعة من الآداب التي ينبغي للمسلم أن يتخلق بها ويراعيها في تعامله مع الزمان الآتي. وهدف هذا المقال هو الكشف عن بعض هذه الآداب، وأولها الاستثناء في المستقبل، وهو من أهمّ آداب المستقبلية، ومعناه أنك حين تتوقع أمورا ما أنها ستكون، فإنك -بقلبك ولسانك- تربط ذلك بمشيئة الله سبحانه.. مهما كانت درجة الاستشراف وقوته، كأنك تقرّ بأن تدبيرك -أو تدبير غيرك- مرهون ومشروط بإرادة الباري، التي أحاطت بكل شيء. الاستثناء في القرآن كان المشركون قد سألوا النبي، صلى الله عليه وسلم، عن أهل الكهف وذي القرنين.. فوعدهم بالجواب من الغد، ولم يقل إن شاء الله.. فتأخر الوحي مدة، وكان ذلك نوعاً من العتاب الرمزي للرسول الكريم. ثم لمّا كان اليوم الخامس عشر، نزل الوحي ببيان الجواب عما سألوه، وأرشد الله رسوله إلى أدب مهمّ من آداب التوقع، فقال: (ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا، إلا أن يشاء الله، واذكر ربك إذا نسيت، وقل عسى أن يهديني ربي لأقرب من هذا رشدا). قال الطبري: «هذا تأديب من الله، عز ذكره، لنبيه، صلى الله عليه وسلم، عهد إليه أن لا يجزم على ما يحدث من الأمور أنه كائن لا محالة إلا أن يصله بمشيئة الله، لأنه لا يكون شيء إلا بمشيئة الله». ويرى بعض العلماء أن لنسيان الاستثناء كفارة وتوبة بالقول، كما أرشد إليه الله سبحانه: (وقل عسى أن يهديني ربي لأقرب من هذا رشدا). التأدب النبوي بالتوجيه القرآني تعلم النبي الكريم هذا الأدب الإلهي وحرص عليه، وتروي لنا كتب السنة نماذج كثيرة منه، ففي صحيح البخاري، حين سأل عتبان بن مالك الرسول، عليه الصلاة والسلام، أن يأتي ويصلي في بيته أجابه: سأفعل، إن شاء الله. قال الكرماني: هذا «تعلق بمشيئة الله، تعالى، عملا بقوله: (ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله) وليس لمجرد التبرك، إذ محل استعماله إنما هو في ما كان مجزوما به». وعند ابن حجر: «قوله (سأفعل إن شاء الله) هو هنا للتعليق وليس لمحض التبرّك، كذا قيل. ويجوز أن يكون للتبرك لاحتمال اطّلاعه، صلى الله عليه وسلم، بالوحي على الجزم بأن ذلك سيقع». وفي البخاري كذلك أنه، عليه السلام، قال لأصحابه: ننزل غدا إن شاء الله بخيف بني كنانة.. ولما أراد إنهاء حصار الطائف نادى: إنا قافلون، إن شاء الله. الاستثناء في اليمين يمنع الحنث لذلك أجاز الرسول، صلى الله عليه وسلم، الاستثناء من اليمين وأخبر أن المستثني لا يحنث، فعن ابن عمر، عليه السلام: من حلف على يمين فقال إن شاء الله فقد استثنى. بل إن الاستثناء يصح حتى لو جاء منفصلا عن الحلف بيسير، فقد بوّب الحافظ أبو داود: باب الاستثناء في اليمين بعد السكوت، مما أورد فيه حديث ابن عباس أن النبي قال: والله لأغزون قريشا، يكررها ثلاث مرات، ثم قال: إن شاء الله. وفي روايات أخرى أنه سكت ثم استثنى. قال الطيب آبادي: «هذه الأحاديث دليل على أن التقييد بمشيئة الله تعالى مانع من انعقاد اليمين أو يحل انعقادها. وقد ذهب إلى ذلك جمهور العلماء، وادّعى عليه ابن العربي الإجماع». قصة النبي سليمان ودروسها أعود إلى الموضوع، وأقول: إن الاستثناء في المستقبل أدب عامّ لم يخُصَّه الله، تعالى، بنبيه وأمته، بل أرشد إليه، سبحانه، من سبقنا بالإيمان. فقد روى الأئمة عن النبي، صلى الله عليه وسلم، أنه قال: «قال سليمان بن داود نبي الله: لأطوفنّ الليلة على سبعين امرأة (أي نساء كثيرات، لأن السبعين في العربية تدل على الكثرة).. كلهن تأتي بغلام يقاتل في سبيل الله. فقال له صاحبه، أو الملك: قل: إن شاء الله. فلم يقل. ونسيّ. فلم تأت واحدة من نسائه، إلا واحدة جاءت بشق غلام. فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: ولو قال: إن شاء الله، لم يحنث، وكان دركا له في حاجته». قال النووي في كلمة «نسي»: ضبطه بعض الأئمة بضمّ النون وتشديد السين، وهو ظاهر حسن، وكان دركا له: اسم من الإدراك، أي لحاقا. وقد ذكر ابن أبي جمرة أن «ظاهر الحديث يدلّ على أن أمور الغيب لا يجوز القطع عليها في نجح ما يرجى منها إلا مع الاستثناء». ويدل الحديث، كذلك، على إباحة التكلم في المستقبل على سبيل الظن، قال البدر العيني: «فيه جواز الإخبار عن الشيء ووقوعه في المستقبل بناء على الظن»، وذلك أن سليمان، عليه السلام، ظن أمرا سيقع من أمور المستقبل وتكلم عنه، بل سعى إليه». وها هنا أمْرٌ نبّه إليه الشراح، فقد قال ابن حجر -في قوله عليه السلام: ولو قال إن شاء الله لم يحنث، وكان دركا له في حاجته: «المراد أنه كان يحصل له ما طلب، ولا يلزم من إخباره، صلى الله عليه وسلم، بذلك في حق سليمان في هذه القصة أن يقع ذلك لكل من استثنى في أمنيته، بل في الاستثناء رجوّ الوقوع وفي ترك الاستثناء خشية عدم الوقوع». وقال العيني: «فيه أن من قال إن شاء الله وتبرّأ من مشيئته ولم يعط الحظ لنفسه في أعماله فهو حريّ أن يبلغ أمله ويعطى أمنيتَه، وليس كل من قال قولا ولم يستثن فيه المشيئة واجب أن لا يبلغ أمله بل منهم من شاء الله بإتمام أمله ومنهم من يشاء أن لا يتمه بما سبق في علمه». وقد اجتهد العلماء في تعليل هذا التوجيه الإلهي والكشف عن بعض من حكمته، فمن ذلك أن الشيخ ابن أبي جمرة قال: يحتاج المرء أن يحضر أدب الشريعة في الحال والماضي والمستقبل، مع تحقيق التعلق بالوحدانية والتوكل عليها والاعتماد على الفضل والمنّ إن أراد نجاح سعيه. وقد نبّه، عز وجل، إلى هذه الأحوال الثلاث في كتابه، فقال في الماضي: (وقل عسى أن يهديني ربي لأقرب من هذا رشدا) وقال في الحال: (إياك نعبد وإياك نستعين) وقال في المستقبل: (ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله).. فهذه الأحوال الثلاث من طريق الاعتقاد ومن طريق التصرف في المحسوس على مقتضى الشريعة في الأمر الذي يكون التصرف فيه بصدق وتصديق، فمن وفق لذلك فقد كملت له دائرة السعادة ونجح سعيه في الدنيا والآخرة» . ومن أحسن من تحدث في حكمة الاستثناء القاضي أبو بكر، قال: «قال قوم: أي فائدة لهذا الاستثناء وهو حقيق واقع لا محالة، لأن الدليل قد قام، وكل أحد قد علم بأن ما شاء الله كان؟ قلنا: عنه أربعة أجوبة: الأول: أنه تعبد من الله، فامتثاله واجب، لالتزام النبي، صلى الله عليه وسلم، وانقياده إليه ومواظبته عليه. الثاني: أن المرء قد اشتمل عقده على أنه إن شاء الله كان ما وعد بفعله أو تركه واتصل بكلامه في ضميره، فينبغي أن يتصل ذلك من قوله في كلامه بلسانه، حتى ينتظم اللسان والقلب على طريقة واحدة. الثالث: أنه شعار أهل السنة، فتعيّنَ الإجهار به، ليميز من أهل البدعة. الرابع: أن فيه التنبيه على ما يطرأ في العواقب بدفع أو تأتٍّ، ورفع الإيهام المتوقع بقطع العقل المطلق في الاستغناء عن مشيئة الله، سبحانه». ويقول سيد قطب: «إن كل حركة وكل نأمة، بل كل نفس من أنفاس الحي، مرهون بإرادة الله، وسجف الغيب مسبل يحجب ما وراء اللحظة الحاضرة، وعين الإنسان لا تمتد إلى ما وراء الستر المسدل، وعقله، مَهْما علم، قاصر كليل، فلا يقل الإنسان إني فاعل ذلك غدا. وغدا في غيب الله وأستار غيب الله دون العواقب. وليس معنى هذا أن يقعد الإنسان، لا يفكر في أمر المستقبل ولا يدبر له وأن يعيش يوما بيوم ولحظة بلحظة وألا يصل ماضي حياته بحاضره وقابله.. كلا. ولكن معناه أن يحسب حساب الغيب وحساب المشيئة التي تدبره وأن يعزم ما يعزم ويستعين بمشيئة الله على ما يعزم ويستشعر أن يد الله فوق يده، فلا يستبعد أن يكون لله تدبير غير تدبيره. فإن وفقه الله إلى ما اعتزم فبها. وإن جرت مشيئة الله بغير ما دبر لم يحزن ولم ييأس.. ولن يدعو هذا إلى كسل أو تراخ أو ضعف أو فتور، بل على العكس، يمده بالثقة والقوة والاطمئنان والعزيمة. فإذا انكشف ستر الغيب عن تدبير لله غير تدبيره، فليتقبل قضاء الله بالرضى والطمأنينة والاستسلام». تخريج الحكم الفقهي للاستثناء المتكرر في المستقبل لكنْ، هل معنى هذا أنّ على المسلم أن يستثني بالمشيئة في كل أحواله وجميع كلامه وكتابته؟.. هذا سؤال وجيه، خصوصا إذا علمنا أن الحديث عن المستقبل والبحث في التوقعات هما محور ما يعرف ب»الدراسات المستقبلية»، بمعنى أن المتخصص المسلم في هذا الحقل يضطر إلى استعمال صيغة الزمان المستقبل بكثرة، بحرف السين أو بدونه، مثل: سيقع كذا، سيحدث كذا... أو يتوقع كذا، أو ينتظر كذا... إلخ. فلو كان عليه أن يستثني في كل مرة لكثر ذلك جدا. والذي أراه لحل هذا الإشكال هو أن ينبه الباحث أو الكاتب -في مجال المستقبل- إلى الاستثناء بضع مرات.. وفي غيرها يجوز له إطلاق التوقعات بدون تعليقها اللفظي على المشيئة الإلهية. أقول، مثلا: يجب على الإعلامي أو الصحافي، الذي يقدم النشرة الجوية أن يذكر الاستثناء، ولو مرة واحدة، والأحسن في بداية النشرة أو نهايتها، حتى يربط الاستثناء بها جميعا.. وبعد هذه المرة لا عليه إن لم يستثن، إن شاء الله. ولي في هذا أدلة ثلاثة: الأول: رفع الحرج وتكرار الاستثناء فيه مشقة... بل إذا كثر في كلام قليل بَانَ فيه التكلف ولم يكن جزلا. الثاني: الأصل في الاستثناء الندب لا الوجوب، لذلك اعتبر الرازي تركه تركا للأَولى والأفضل، بل قال: إن التلفظ بهذه الكلمة مندوب في عمل يراد تحصيله. وقال النووي، في تعليقه على حديث سليمان النبي: «يستحب للإنسان إذا قال سأفعل كذا أن يقول إن شاء الله، لقوله تعالى: (ولا تقولن لشيء.. الآية)، ولهذا الحديث». الثالث: القياس على الرأي الفقهي القاضي بعدم وجوب الصلاة على النبي، صلى الله عليه وسلم، كلما جرى ذكره، وهذه مسألة خلافية. لكن -في ما يبدو لي- لا يجوز ترك هذا الأدب باطراد حتى يكون عادة، فإنه يسقط في معارضة هذه النصوص من القرآن والسنة التي تقدمت. فأقول، على طريقة الشاطبي في الموافقات: الاستثناء بالمشيئة مندوب بالجزء واجب بالكل. وأختم بتنبيه أخير ذكره ابن تيمية عن قوم يقولون: المشيئة مشيئة الله في الماضي والمستقبل، فأجاب بأنه لم يجئ في الكتاب والسنة استثناء في الماضي، بل في المستقبل، ولم ينقل ذلك عن أحد من علماء الإسلام، فمن قال مثلا: «إن الله خلق السموات إن شاء»، فقد أخطأ، لأن هذا كان وانتهى. يتبع..