تدور في عالم اليوم حرب كونية للسيطرة على المستقبل.. مستقبل البشرية. وليس للعرب والمسلمين دور في هذا الصراع، لذلك من المرجح أن يُستعمر مستقبلهم، كما استعمر حاضرهم.. لكي يكون لنا مكان في هذا العالم لا بد من مصالحة العقل العربي -الإسلامي مع المستقبل.. وهذه السلسة محاولة لتأصيل الفكر المستقبلي في الإسلام، حيث يكون العقل المسلم قادرا على التعامل مع الزمان الآتي واستشراف المستقبل بثقة ومنهجية وعلم، دون أن يخطر بالبال أن في ذلك محذورا شرعيا.. وقدوتنا في هذا هو نبينا العظيم، عليه أزكى الصلاة والتسليم.. خاصة مع هذا الشهر الكريم.. شهر رمضان. رأينا أن العقيدة المحكمة التي ينبغي التمسك بها هي أن النبي، صلى الله عليه وسلم، لا يعلم الغيب، كما قال تعالى: (قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله، وما يشعرون أيان يبعثون). قال الطبري: أي الغيب الذي قد استأثر الله بعلمه وحجبه عن خلقه. فقد أمر الله، عز وجل، نبيه أن يوقفهم على أن الغيب مما انفرد الله بعلمه، ولذلك سُمّي غيبا، لغيبه عن المخلوقين. العلم النبوي في الحديث بهذه الآية احتجت أمنا عائشة في قولها لمسروق: ثلاث من تكلم بواحدة منهن فقد أعظم على الله الفرية: من زعم أن محمدا رأى ربه، ومن زعم أنه كتم شيئا من كتاب الله، ومن زعم أنه يخبر بما يكون في غد.. ثم قرأت آية النمل. وفي البخاري عن الربيع بنت معوذ قالت: جاء النبي، صلى الله عليه وسلم، حين بُني عليّ، فجلس على فراشي كمجلسك مني، فجعلت جويريات لنا يضربن بالدف ويندبن من قتل من آبائي يوم بدر، وإذ قالت إحداهن: وفينا نبي يعلم ما في غد. فقال: دعي هذه، وقولي بالذي كنت تقولين. قال البدر العيني: «أي اتركي هذا القول لأن مفاتح الغيب عند الله لا يعلمها إلا هو. قوله: وقولي بالذي كنت تقولين، يعني اشتغلي بالأشعار التي تتعلق بالمغازي والشجاعة ونحوها».
معرفة بعض الغيب استثناء إذا كان النبي الكريم لا يطّلع على الغيب ولا يُحيط بمعرفته فليس معنى ذلك أنه لا يعلم منه شيئا، فهو، عليه السلام، يعلم منه الكثير مما علمه الله.. وهذا صريح قوله تعالى (قل إن أدري أقريب ما توعدون أم يجعل له ربي أمدا، عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا، إلا من ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدا، ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم وأحاط بما لديهم وأحصى كل شيء عددا). أي: وقت العذاب -وقيل القيامة- غيب لا يعلمه إلا الله، ولا أدري أهو قريب أم إن له أجلا وغاية تطول مدتها. فإن الله لا يُطْلع على غيبه مخلوقا، إلا من يصطفيه لرسالته فيظهره على ما يشاء من الغيب. ولذلك بوّب البخاري في صحيحه: باب قول الله تعالى: عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا.. الآية، في كتاب التوحيد. قال الشارح: «اختلف في المراد بالغيب، فقيل هو على عمومه، وقيل ما يتعلق بالوحي خاصة، وقيل ما يتعلق بعلم الساعة، وهو ضعيف لأن علم الساعة مما استأثر الله بعلمه». وقال ابن كثير: (إلا من ارتضى من رسول) هذا يعم الرسول الملكي والبشري. فالقاعدة، إذن، هي اطّلاع الرسل على الغيب الذي له تعلق بالرسالة، وما عدا ذلك فالأصل فيه عدم إطْلاعهم عليه، كما قال سبحانه: (وما كان الله ليطلعكم على الغيب، ولكن الله يجتبي من رسله من يشاء)، قال ابن عاشور: «هذا استثناء من مفاد الغيب، أي الغيب الراجع إلى إبلاغ الشريعة، وأما ما عداه فلم يضمن الله لرسله إطلاعهم عليه، بل قد يطلعهم وقد لا يطلعهم». وقد ذكر الرازي -وأشار إليه ابن كثير- أن الغيب هنا هو القرآن وما فيه من الأنباء والقصص والقول بالعموم أولى، فإن النبي، صلى الله عليه وسلم، بلّغ القرآن وغير القرآن، كما في إخباراته الكثيرة عن عوالم الغيب وعن المستقبلات والفتن وما يكون من أشراط الساعة... وغير ذلك كثير جدا أفرده العلماء -وخاصة أهل الحديث- بالتأليف والتصنيف. قاعدة في تصرفات الرسول البشرية لذلك يمكن القول إن النبي الكريم حين لا يُطلعه الله تعالى على الغيب في نازلة ما، فإنه يتصرف باجتهاده ومجهوده، أي بمقتضى بشريته. تروي أم سلمة، رضي الله عنها، أن الرسول، صلى الله عليه وسلم، سمع خصومة في باب حجرته، فخرج إليهم فقال: إنما أنا بشر وإنه يأتيني الخصم، فلعل بعضكم أن يكون أبلغ من بعض، فأحسب أنه صدق فأقضيّ له بذلك. فمن قضيت له بحق مسلم فإنما هي قطعة من النار، فليأخذها أو ليتركها. وفي طريق آخر: إنكم تختصمون إليّ، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضيّ له على نحو مما أسمع منه. فمن قطعت له من حق أخيه شيئا فلا يأخذه، فإنما أقطع له به قطعة من النار. قال ابن العربي: «المراد باللحن هنا القصد في المعنى، وهو الفطنة أيضا والبصر بمداخل الأمور ومخارجها وسوْق القول على السبيل النافعة المفضية إلى المراد». ويجوز أن يكون معناه: أفصح تعبيرا عنها وأظهر احتجاجا حتى يخيل أنه محق وهو في الحقيقة مبطل. ومقصود النبي الكريم -كما قال النووي- « التنبيه على حالة البشرية، وأن البشر لا يعلمون من الغيب وبواطن الأمور شيئا إلا أن يطلعهم الله تعالى على شيء من ذلك، وأنه يجوز عليه في أمور الأحكام ما يجوز عليهم». وهذا الحديث -وغيره- يقرر قاعدة عظيمة لها صلة بالنبوة وحقيقتها، وهي: الأصل أن الرسول عليه الصلاة والسلام لا يدبّر شيئا من شؤون الدنيا، كالحكم والقضاء والحرب والسلم وتسيير المدينة وحياة الناس.. إلا حسب الظاهر ونظام الوجود في الأسباب والمسببات، وأن الله تعالى حين يطلعه على بعض الغيوب في ذلك فمن باب الاستثناء، وأنه لا يقضي حسب هذا الاطلاع الاستثنائي. لذلك قال المازري -في تعليقه على حديث: اللهم إنما أنا بشر، فأيما رجل من المسلمين سببته أو لعنته أو جلدته فاجعلها له زكاة ورحمة- «إنه، صلى الله عليه وسلم، متعبد بالظواهر، وحساب الناس في البواطن على الله تعالى». ويقول النووي في شرح حديث إنكم تختصمون إلي: «إنما يحكم بين الناس بالظاهر والله يتولى السرائر، فيحكم بالبينة واليمين ونحو ذلك من أحكام الظاهر، مع إمكان كونه في الباطن خلاف ذلك، ولكنه إنما كلف الحكم بالظاهر.. ولو شاء الله تعالى لأطْلعه صلى الله عليه وسلم على باطن أمر الخصمين فحكم بيقين نفسه من غير حاجة إلى شهادة أو يمين، لكنْ لما أمر الله تعالى أمته باتباعه والاقتداء بأقواله وأفعاله وأحكامه أجرى له حكمهم في عدم الاطّلاع على باطن الأمور ليكون حكم الأمة في ذلك حكمه، فأجرى الله تعالى أحكامه على الظاهر الذي يستوي فيه هو وغيره ليصحّ الاقتداء به وتطيب نفوس العباد للانقياد للأحكام الظاهرة من غير نظر إلى الباطن». وهذا شأن الأنبياء جميعا، الذين يجيبون ربهم يوم الحساب بقولهم: (لا علم لنا، إنك أنت علام الغيوب). قال ابن عباس، وصحّحه الرازي: إنما قالوا لا علم لنا لأنك تعلم ما أظهروا وما أضمروا، ونحن لا نعلم إلا ما أظهروا، فعلمك فيهم أنفد من علمنا. وقد اشتهر هذا المعنى بين الناس حتى عدوا من أقوال النبي الكريم: «أمرت أن أحكم بالظاهر والله يتولى السرائر». وهذا -من حيث المعنى- صحيح، كما تشهد بذلك الأحاديث السابقة، لكن هذا اللفظ بالخصوص لم يثبت. يتبع..