تنشر جريدة «المساء» بعض أقوى فقرات كتاب «عبد الرحمان اليوسفي والتناوب الديمقراطي المجهض» للزميل الصحافي محمد الطائع. يكشف الكتاب تفاصيل جديدة عن تجربة «التناوب التوافقي» في تحضيرها وسياقها وصراعاتها الخفية ومآلها، كما يسلط «الكتاب» الضوء على بعض كواليسها. ولأن تجربة «التناوب التوافقي» التي تعتبر من العناوين الدالة وأحد المداخل البارزة للانتقال الديمقراطي بالمغرب، وارتباط اسمها بقائدها، الأستاذ عبد الرحمان اليوسفي، الوزير الأول، الذي قاد التجربة، وبصفته أيضا كاتبا أول لحزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، (أقوى أحزاب المعارضة آنذاك)، فإن ثنايا «الكتاب» اقتحمت كذلك بعض عوالم اليوسفي «الخاصة»، سواء باعتباره وزيرا أول أو باعتباره كاتبا أول لحزب الاتحاد الاشتراكي. التفاصيل الواردة بين دفتي هذا الكتاب مستقاة من شهادات ومعلومات وافادات وخلاصة عشرات الجلسات مع سياسيين وقيادات ومسؤولين عاشوا تجربة التناوب كما عايشوا اليوسفي عن قرب. اختزل اليوسفي مجهوداته ومنجزاته وذكّر الرأي العام الوطني والدولي بها، كما ذكرهما كذلك بسياقات تجربة التناوب وإكراهاتها وأعطابها، في خطابه الشهير بالعاصمة البلجيكية عندما قال: «هذه الحكومة يمكنها أن تفتخر بأنها قلصت المديونية الخارجية من 19,2 مليار دولار سنة 1998 إلى 14,1 مليار دولار سنة 2002 وأنها حافظت على معدل التضخم في نسبة 2% وقلصت المعدل الوطني للبطالة من 14,5 في المائة سنة 1999 إلى نسبة 10,5 % سنة 2002 وأن نسبة الميزانية العامة للدولة المخصصة للقطاعات الاجتماعية ارتفعت من 41 % إلى 48 % وارتفعت نسبة ربط القرى بشبكة الكهرباء من 27 الى 50 % وتزويد القرويين بالماء الصالح للشرب من 32 % الى 50 % ونسبة التمدرس بالنسبة للأطفال البالغ سنهم مابين 6/11 سنة ارتفعت من 68 % إلى 94 %· كما سجلت سنة 2001 نتائج اقتصادية مُرضية :6,5% كمعدل للنمو و5 % من الناتج الداخلي الخام كفائض عن الحساب الجاري لحساب الأداءات، والحفاظ على معدل العجز في المالية العمومية بنسبة 2,7 % من الناتج الداخلي الخام وتحقيق نسبة منخفضة من التضخم في حدود 0,6 %· وقد كرست سنة 2002 وقوّت هذه النتائج بتحقيق نسبة نمو تعادل 4,5 % وفائض في الحساب الجاري يقارب 3%· كما أن مداخيل السياح وعددهم يبيّنان عودة تدريجية للثقة في المغرب كوجهة سياحية· واستقرت المستحقات الخارجية في 104,5 مليارات درهم مقابل 99,3 وهو ما سمح بتغطية 8,8 أشهر من الاستيراد· وتحت إشراف هذه الحكومة تشكلت لجن تحقيق برلمانية وغيرها عرت النقاب عن الفضائح والاختلاسات في المؤسسات العمومية والبنكية (..)· أضف إلى هذا تسوية الملفات المتعلقة بحقوق الإنسان وتعويض ضحايا الاختفاءات القسرية والاعتقالات التعسفية وأشكال القمع الأخرى التي ارتكبت في الستينيات والسبعينيات· وهو التعويض الذي كلف الدولة أزيد من 80 مليون دولار، وإصدار ترسانة من القوانين والمراسيم في المجال الاجتماعي، ولاسيما منها نصوص إصلاح التربية والتكوين والتغطية الصحية الاجبارية، وحماية وتوسيع حرية التعبير والصحافة وإصلاح قانون المسطرة الجنائية وتنفيذ عدد مهم من الأحكام وإلغاء احتكار الدولة للإعلام السمعي البصري وإقرار مجلس أعلى للإعلام السمعي البصري»· أعلن اليوسفي حربا لا هوادة فيها على مظاهر التسيب والتبذير المالي والنهب في القطاع العام، وأحكمت الرقابة على المؤسسات وتم التخلّص من أسطول هائل من سيارات الدولة (سيارات المصلحة)، وقنّنت تعويضات السفر والتنقل خارج المغرب وداخله، مع حذف تعويضات حضور المجالس الإدارية، التي باتت تنعقد بانتظامية، ضمنها مجالس لم تنعقد لعقود خلت، فضلا عن تفعيل دور الكثير من المجالس والمؤسسات واستحداث أخرى. المجلس الأعلى للوظيفة العمومية يعقد أولى دوراته برئاسة اليوسفي، وهو أول اجتماع في تاريخ الإدارة المغربية. ميثاق التخليق وحسن التدبير، كان شعار المرحلة وهو بالدرجة الأولى وعي مواطناتي والتزام أخلاقي ومبدئي أكثر مما هو نص قانوني أو إعمال للقانون. كثيرة هي منجزات حكومة اليوسفي ومتعددة، وللاستدلال، على سبيل المثال لا الحصر، لا بد من الإشارة إلى تمتيع العديد من منظمات المجتمع المدني بصفة المنفعة العامة، وعلى رأسها الجمعية المغربية لحقوق الإنسان والمنظمة المغربية لحقوق الإنسان، فيما اعترضت الأمانة العامة على إصدار مرسوم منح صفة المنفعة العامة لمنظمة «أمنستي» (فرع المغرب). كما تم وضع حد لعدم تنفيذ الإدارة للأحكام الصادرة ضدها، وأحدث اليوسفي منذ السنة الأولى للحكومة لجنة وزارية تحت رئاسته، سهرت على تنفيذ 130.352 حكما ضد شركات التأمين و567319 حكما لصالح عموم المتقاضين، وتنفيذ 2983 حكما ضد الإدارات والمؤسسات العمومية. وعلى مستوى الشق الحقوقي، دائما، رصدت الحكومة مبلغ 59 مليار سنتيم من الميزانية العامة للدولة لأداء التعويضات التي أقرتها اللجنة المستقلة لتعويض ضحايا الاختفاء القسري والتعسفي، وأشرفت الوزارة الأولى على أداء التعويضات مع تسوية ملفات كافة المطرودين والموقوفين لأسباب نقابية وسياسية، في وقت رفض فيه اليوسفي، مترفعا، أن يتقدم بطلبه للتعويض باعتباره أحد الوجود البارزة من ضحايا سنوات الرصاص. كما أصدر اليوسفي منشورا وزاريا بتاريخ 5 نونبر 1999 حول استعمال القاعات العمومية من طرف الجمعيات والأحزاب والنقابات في إطار الحق في حرية الاجتماع العمومي، ضدا على منشور وزير الداخلية. أوراش ضخمة وإصلاحات عميقة ومخططات واعدة، أطلقتها حكومة التناوب، منها ما نفذ في حينه ومنها ما عطّل إلى حين ومنها ما اشتغلت عليه الحكومات المتعاقبة، حكومة ادريس جطو وحكومة عباس الفاسي، لتظهر بعدها بتسميات جديدة، فمخطط «اليوتس» في جوهره ليس إلا ذلك المخطط الذي أعدته حكومة التناوب والرامي إلى المحافظة على الثروة السمكية، وتحسين أوضاع العاملين بالقطاع عبر إنشاء قرى للصيادين على طول الساحلين الأطلسي والمتوسطي، وتوفير التغطية الاجتماعية البحرية، والاستغلال المسؤول للثروة السمكية، بدعم من صندوق الحسن الثاني المحدث بموجب فائض مداخيل عملية الخوصصة. مخطط «إقلاع» الصناعي، بدوره، مبني على برنامج حكومة التناوب، حيث يستهدف المخطط إحداث عدة مناطق صناعية وبرنامج وطني لمشاتل المقاولات بشراكة مع الجماعات المحلية في أزيد من 20 مدينة. كما أعدت حكومة التناوب «كتابا أبيض» وإحصاء وطنيا شاملا هو الأول من نوعه في مجال الصناعة والصناعة التقليدية والحرف بالأساس. عجز الحكومة وحزب الوزير الأول عن تسويق منجزاتها، خاصة في المجال الاجتماعي، كلفها كثيرا. ولعل أبرز مثال على ذلك، هو «المبادرة الوطنية للتنمية البشرية» التي أعلن الملك محمد السادس عن احداثها في 18 ماي 2005 . والتي ليست في الأصل سوى تصريف لخلاصات «الوثيقة الاستراتيجية للتنمية الاجتماعية المندمجة» واختصاصات «وكالة التنمية الاجتماعية» المحدثة بمقتضى ظهير 25 غشت 1999، والواقعة إداريا تحت نفوذ الوزير الأول. حيث إن مجال تدخل الوكالة حدد في تمويل الأنشطة الاجتماعية في الميادين ذات الأولوية القصوى، مثل الماء الصالح للشرب، الكهربة القروية، محو الأمية، التعليم الأساسي، الخدمات الصحية الأساسية. وتمنح الوكالة الدعم المادي لإنجاز مشاريع جماعية أو فردية، الهادفة إلى الرفع من مستوى مداخيل الفئات ذات الدخل المحدود. وخصصت الحكومة للوكالة مبلغ 362.2 مليون درهم تمتد من فاتح يوليوز 2000 إلى 31 دجنبر 2004. وعقدت مجلسها الإداري الأول تحت رئاسة اليوسفي يوم 3 ابريل 2001. وفي سياق الهاجس الاجتماعي وأولوية حكومة اليوسفي لبرنامج محاربة الفقر، أجريت بحوث ميدانية بأربعين جماعة قروية حول مرتكزات المشاريع الكفيلة بتحسين أوضاع السكان المعوزين، وإعداد مخططات إقليمية لمحاربة الفقر بأربعة أقاليم خضعت لدراسة مونغرافية حول الفقر وأسبابه (إقليمالحوز، شيشاوة، الصويرة، الشاون) وتم استخلاص 2215 فكرة مشروع للتنمية، لغاية تفعيل المقاربة التشاركية بين الحكومة والمجتمع المدني. فضلا عن قوننة نظم «السلفات الصغرى»، الذي مكن من استفادة 12 جمعية حتى نهاية سنة 2001 شملت 227.878. وكان للاقتصاد الاجتماعي بالغ الأثر في الحد الجزئي من الفقر المدقع ومظاهر الإقصاء والظلم الاجتماعي والتهميش. حكومة اليوسفي ستتوج عملها، بإنقاذ الاقتصاد الوطني. تعافى الاقتصاد وتخطى مرحلة الانكماش واللااستقرار والأزمة. وتحركت عجلة الاستثمارات وعادت الأموال والسيولة إلى خزينة الدولة. والصناديق التي نهبت أموالها وأفرغت انتشلت من عجزها وطهّرت. معزوفة استثنائية كانت تعزف بتناغم احترافي عالي المستوى بين والي بنك المغرب ووزير الاقتصاد والمالية للحفاظ على التوازنات الاقتصادية. أحدث «السي عبد الرحمان» حالة استنفار في أكثر من إدارة وقطاع، بجهد وعزيمة لا تلين، لجن وزارية موازية بالعشرات، يحرص على رئاستها ومواكبة أشغالها، قوانين ومناظرات وطنية قطاعية، أفكار ومخططات. وتيرة اشتغال اليوسفي وطاقة التحمل لديه، أحرجت وأتعبت من حوله. كان مؤمنا بقيمة الزمن في السياسة وقيمة السرعة في الإنجاز، ملمّا بالرهانات الكبرى. كان وزيرا أول حقيقيا وفعليا، رغم كافة الإكراهات.