من راعي غنم في هضاب زيان إلى مستشار في أم الوزارات ورجل من رجالات ابن الشاوية ادريس البصري، من شاب مشبع بالفكر الثوري حريص على التصدي لغارات المخزن إلى حارس أمين لقلعة توصف بأم الوزارات، من طفل حملته الصدفة إلى طاولات المدرسة إلى منظر في العلوم السياسية ورجل عركته التجارب والملفات التي اضطلع بها وحولته إلى خبير في إعداد التراب الوطني. حين تقرأ مسودة كتاب «حياتي، الحسن الثاني، إدريس البصري وأنا» تشعر وكأنك تسافر في عمق تاريخ وجغرافية بلد عاش على إيقاع التحولات، وكلما التهمت الصفحات شعرت وكأنك تطوي المسافات وتجوب تضاريس مغرب كان فيه ادريس البصري صانع علامات التشوير السياسي، مستمدا قوته من ثقة الملك الراحل الحسن الثاني في إخلاص ابن الشاوية وولائه. يعتبر الدكتور لحسن بروكسي من الرعيل الأول للمستشارين الشباب الذين ائتمنهم البصري على ملفات حساسة في وزارة الداخلية، قبل أن يتحول من مسؤول تحركه الهواجس الأمنية إلى برلماني مسكون بالغارات السياسية، وبين الضفتين عشرات نقط الالتقاء والاختلاف. تنشر «المساء» في هذه الاستراحة الصيفية جوانب خفية لكثير من الملفات الشائكة التي اشتغل عليها بروكسي ومستشارو البصري، وتسلط الضوء على قضايا أحيطت بكثير من السرية، وملفات وضعت في دواليب كتبت عليها عبارة «سري للغاية». كانت قطيعتي مع الداخلية قاسية على نفسي، فقد عشتُ لحظات عسيرة حاولتُ أن أغير فيها جلد السلطة بجلد الفكر.. وأن استبدل عاداتي القديمة. لقد تبيّن لي أن الطلاق المهني أشدّ وقعا على القلب من الطلاق العائلي، خاصة إذا تعلق الأمر برجل نذر حياته لخدمة المخزن ووجد نفسه، فجأة، خارج غرفة القرار.. في خلوتي، أحتسي قهوة سوداء سواد كلون الغيمة التي جثمت على رأسي، فأعيد ترتيب مساري الذي خصّصتُ جزءا منه لترميم المفهوم السلطوي للدولة، وأستحضر الملفات التي كان لي دور كبير في معالجتها، كالخدمة المدنية ومغربة الإدارة والإعداد للمسيرة الخضراء والتناوب السياسي والانفتاح الديمقراطي وإصلاح القطاع السمعي -البصري، وغيرها من الملفات التي كلّفتني أجمل فترات حياتي. هناك فرق كبير بين البصري الوزير وإدريس الإنسان، الذي عرفته في بداية عهدي بالإدارة الترابية، فالأول براغماتي والثاني إنساني، الأول سلطوي والثاني عاشق ل«ريحة الدّوار»، محب للبادية. لم يعد البصري، بعد أن استوى جيدا على كرسي أم الوزارات وأصبح الآمرَ الناهيَّ، في حاجة إلى أصدقاء الأمس، الذين رافقوه حين كان يمشي على الأشواك. كما لم أعد، بدوري، في حاجة إليه. عندما أطلق البصري سراحي وأصبحت خارج الوزارة، تراءتْ أمامي الفضاءات الرّحبة للحياة المدنية التي لا تحيط بها أسلاك شائكة. هنا تخلصتُ من ضغط الإدارة ومكائدها وأنهيت علاقتي بقوم لا يرفضون لِوليّ نعمتهم طلبا ولا يستطيعون النطق بكلمة «لا» في حضرته.. إنهم يُصغون إلى تعليماته ويرددون بين الفينة والأخرى «آمين».. صحيح أنني قدّمت إضافات للقطاع السمعي -البصري، لكنّ كثيرا من مشاريعي وُضِعت في رف النسيان وصودرت أخرى مع سبق الإصرار والترصد، خاصة حين كنت ألحّ على البصري من أجل الموافقة على إرسال مجموعة من الموظفين العاملين في وزارة الإعلام إلى دورات تكوينية في محطات عالمية مثل «بي بي سي» و«إذاعة صوت القاهرة» و«تي في 1» و«أنتين 2».. لأنني كنت مؤمنا ومقتنا بأن دفعة محمد السادس هي الأجدر بإمساك خيوط الإعلام السمعي -البصري لما بعد جيل معنينتو. اكتفى الوزير بإيفاد فئة من الخريجين إلى فرنسا في دورة تدريبية، ولم يُعر اهتماما لمطلبي حين اقترحتُ عليه تعيين بن ددوش كاتبا عامّا للإعلام، بالنظر إلى تجربته الطويلة في هذا القطاع ولأنه «قاموس الإذاعة» بامتياز.. إلا أن الوزير قرّر إبعاد هذا الرجل -الموسوعة إلى العيون من أجل الإشراف على محطة الإذاعة هناك، ضدا على كل التوقعات، لكن بن دادش لم يعترض وحزم حقائبه على وجه السرعة ليساهم في إشعاع الأقاليم المُسترجَعة وفي التعريف بها، فأبان عن حس وطني نادر. أما أحمد الزايدي فكان يحمل، بدوره، هموم التلفزيون وهو مقدّم نشرات غير راض عن المعالجة الإعلامية للأخبار، بل إنه أعدّ تقريرا حول أوضاع التلفزة المغربية دون أن يجد آذانا صاغية.. لقد كنت أتمنى أن يجلس على كرسي المسؤولية ليترجم مُقترَحاته، لكن البصري رفض، لأنه يرى الأمور بعيون معنينو وفنجيرو فقط، ويخشى من اكتساح جيل جديد يحد من اختراق الداخلية للإعلام.. مُنِحت للزايدي مهمة الإشراف على نشرات التلفزيون من الناحية المهنية، وظلت علاقته وطيدة بالفنانين وبالمبدعين الذين يترددون على مقر المحطة، واقترح الاستعانة بشخصين تتلمذا على يديّ في الداخلية، وهما عبد الرحمن عاشور، الذي عيّنه البصري مديرا للإذاعة، ومحمد إيساري على رأس التلفزيون. في هذه الفترة بادر البصري، أيضا، إلى تعيين طريشة مديرا عاما للإذاعة والتلفزة المغربية، ليضخّ في أروقتها دم «الاستخبار»، وهو مشهد جعل الجميع يتحدثون عن نزول بالمظلات لثلاثة رجال سلطة فوق مبنى التلفزيون، في إشارة واضحة إلى تحويله إلى مديرية فرعية لوزارة الداخلية.. ظل هذا الثالوث ممسكا بزمام المشهد الإذاعي والتلفزي الرسمي حتى بعد استقلال الإعلام عن الداخلية وإنهاء هيمنة البصري عليه إداريا فقط، فلم يغادر طريشة وإيساري وعاشور «دار البريهي» إلا بعد إعفاء البصري من مهامّه.. عندما غادرتُ الداخلية والإعلام من البوابة الخلفية، سخرت من نفسي. كنت أحاور بروكسي في عطالته، في ما يشبه المونولوغ، وأصفه بالفلاح الذي ظل ينثر الحبوب على حقول الوزارة ويضع الأسمدة ويحرث بلا كلل، دون أن يجنيّ الغلة.. لم ألتق بالبصري إلا في سنة 1987، وكان حينها يستعد لتقديم رسالته حول موضوع «الأمن والتنمية» تحت إشراف ميشال روسي، رجل القانون الفرنسي الذي ساهم في صياغة الدستور المغربي، وهو العارف بالشأن السياسي المغربي ومؤسس القانون الإداري المغربي. لقد اختار البصري ميشال لعدة اعتبارات، أهمها سيرته الجامعية، فهو حاصل على شهادة تبريز وعلى دكتوراه في القانون وشغل منصب أستاذ مكلف بالدروس في كلية الحقوق لغرونوبل، قبل ان يلتحق بكلية الحقوق في الرباط. كما تقلّد روسي منصب مدير المدرسة الوطنية للإدارة في الرباط في الفترة الممتدة من 1966 الى 1972، فضلا على مؤلفاته في مجال القانون حول المغرب، «الإدارة المغربية» في سنة 1970. اختار البصري ميشيل روسي ليس لأنه من رجال القانون البارزين الذين وضعوا أسس نظرية واضحة في العلوم الإدارية، عموما، وفي صلة بالقانون الإداري المغربي، على وجه الخصوص، بل لأنه صديق الملك الحسن الثاني، وساعده في بحثه فتح أبواب الادارة على مصراعيها أمام المؤلفين ليغترفوا منها حاجياتهم المعرفية، كما ساهم بمجهود فكري عملي، بحكم ممارسته الحكومية التي تجاوزت ربع قرن. التقيتُه في بيته وأخبرته أنني بصدد وضع اللمسات الأخيرة على رسالة دكتوراه الدولة تحت إشراف جان غرانيون في جامعة «جان مولا» في ليون الفرنسية، وهو الفضاء الجامعي الذي قضيتُ فيه قسطا كبيرا من حياتي الطلابية. سألني البصري عن موضوع رسالتي الجامعية فتحايلتُ عليه وقلت له، بعد لحظة تفكير، «التهيئة الحضرية والبيئة».. كنت أعرف مدى ارتباطه بالعلاقة القائمة بين الجانب الأمني والتنمية، وهو موضوع يشغلني أيضا، لكنني راوغته حتى يخال نفسَه أنه الوحيد الذي يضع أصبعه على هذه العلاقة الجدلية بين الأمني والتنموي وأنه صاحب السبق حتى في البحوث الجامعية..