من راعي غنم في هضاب زيان إلى مستشار في أم الوزارات ورجل من رجالات ابن الشاوية ادريس البصري، من شاب مشبع بالفكر الثوري حريص على التصدي لغارات المخزن إلى حارس أمين لقلعة توصف بأم الوزارات، من طفل حملته الصدفة إلى طاولات المدرسة إلى منظر في العلوم السياسية ورجل عركته التجارب والملفات التي اضطلع بها وحولته إلى خبير في إعداد التراب الوطني. حين تقرأ مسودة كتاب «حياتي، الحسن الثاني، إدريس البصري وأنا» تشعر وكأنك تسافر في عمق تاريخ وجغرافية بلد عاش على إيقاع التحولات، وكلما التهمت الصفحات شعرت وكأنك تطوي المسافات وتجوب تضاريس مغرب كان فيه ادريس البصري صانع علامات التشوير السياسي، مستمدا قوته من ثقة الملك الراحل الحسن الثاني في إخلاص ابن الشاوية وولائه. يعتبر الدكتور لحسن بروكسي من الرعيل الأول للمستشارين الشباب الذين ائتمنهم البصري على ملفات حساسة في وزارة الداخلية، قبل أن يتحول من مسؤول تحركه الهواجس الأمنية إلى برلماني مسكون بالغارات السياسية، وبين الضفتين عشرات نقط الالتقاء والاختلاف. تنشر «المساء» في هذه الاستراحة الصيفية جوانب خفية لكثير من الملفات الشائكة التي اشتغل عليها بروكسي ومستشارو البصري، وتسلط الضوء على قضايا أحيطت بكثير من السرية، وملفات وضعت في دواليب كتبت عليها عبارة «سري للغاية». رن هاتف منزل إدريس البصري، فتوقف النقاش الصاخب بيننا وانتبهنا إلى أن عقارب الساعة تجاوزت الثالثة صباحا، علما أن الوزير اعتاد الذهاب إلى غرفة نومه عند حدود الساعة الخامسة صباحا، وهي وضعية لطالما وضعتنا معا أمام شبح الطلاق. كعادته، في الرد على المكالمات، ابتعد إدريس عن المجال السمعي وانخرط في سجال مع جهة يبدو من خلال نبرة كلامه أنها مصنفة في خانة القصر. ما أن وضع السماعة، حتى شرع في طي دفتي الملف، الذي كان مفتوحا أمامه، باسترخاء وقال: - بروكسي، أريد أن تحصل على نسخة من الفيلم الذي أنجز حول الرسول محمد عليه الصلاة والسلام، وتعاينه بتفحص شديد، قبل أن تحمل نسخة منه إلى سفير الجماهيرية الليبية في الرباط في حدود الساعة الحادية عشرة صباحا، وتوافيني فورا بما قمت به. حين تقبل أن تصبح إطارا في وزارة الداخلية، فإنك تلغي كل التزاماتك الشخصية الأسرية، وتصبح تعليمات الوزارة أشبه بالتعليمات العسكرية، تنفذها أولا وتناقشها في ما بعد، وأحيانا تنفذ دون نقاش في ظرف زمني محدد لا يقبل التأخير. في أولى ساعات الدوام توجهت إلى مكتب نور الدين الصايل مدير البرامج بالتلفزة المغربية، وطلبت منه مساعدتي على إنجاز هذه المهمة العجيبة وتمكيني من الشريط في زمن قدره ساعة، قبل الساعة العاشرة صباحا كان الفيلم المبحوث عنه بين يدي، شاهدته وأنا أسابق عداد الزمن وأعيش أطواره. انبهرت بالناقة البيضاء للنبي صلوات الله عليه، بيده الشريفة، بسيدنا عمر وعلي، لكن ظلت تتراقص أمام عيني أسباب هذا الاستنفار المفاجئ، رغم الضجة التي أحدثها الشريط في أوساط العلماء، بسبب بعض المشاهد التي تجسد الرسول الكريم وبعض الصحابة الأجلاء. فهمت مبررات قلق رجال الدين، لكنني لم أفهم لغز تسليم الشريط لسفير القذافي في الرباط، أي علاقة بين مضامين الفيلم وليبيا؟. التحقت، وأنا أتأبط الشريط المثير للجدل، بمنزل البصري، وكان معه رفيقه علابوش وصهره عبد المغيث السليماني، بادرته بالقول: -السي ادريس، أنت لا تفهم شيئا في الأمور الدينية، أدعوك لتسليم هذا الشريط إلى وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، وإذا زكته فسنعمل على برمجته بعد 20 ساعة من الآن. وافق البصري على مضض، ووضع الكرة في مرمى الوزارة المختصة، وتخلصت من القضية. شخصيا، لو كنت أريد الإيقاع بالوزير لتركت الأمر بيد الداخلية، ولظهرت جبهة مناوئة لإدريس، خاصة أن الفرصة كانت مواتية لوضع قشور الموز أمامه، لكن واجب خدمة العرش كان أقوى من كل الحزازات الصغيرة، بل إنني كنت دائما أضع ضمن حساباتي الحالة الصحية لابن الشاوية، التي بدأ مؤشرها يهبط باستمرار، حيث إن الفيروس الكبدي انتشر في أحشاء الوزير، مما حتم عليه معالجته على امتداد سنوات سرا، وإرسال التحاليل إلى المستشفى الجامعي «بول بروس» بفيلجويف، ضواحي العاصمة الفرنسية، وهو المستشفى المتخصص في أمراض السرطان، بواسطة الصيدلي البوعزاوي، بكثير من التكتم، بل إن الملك الحسن الثاني وضع رهن إشارة البصري طبيبه الخاص عرشان، مما يؤكد انشغال الملك بالوضع الصحي لأقرب وزير إلى قلبه. معاناة البصري تجاوزت المرض الباطني إلى مرض خارجي، وهو البرص الذي بدأ ينتشر في جسده، دون أن تنفع وصفات الطب الشعبي والعصري في وقف النزوح اليومي على مساحات جسد وزير يعيش تحت ضغط يومي رهيب. لكن بالرغم من المرض، لم أكن قلقا حول مستقبل عائلة البصري، لأن الملك الحسن الثاني وضعها في مكانة ميسورة، بعيدا عن المخاوف من عاديات الزمن. لقد كنت مقربا من المعيش اليومي لأفراد أسرة البصري الصغيرة والكبيرة، وكنت أحمل في ذراعي ابنه هشام أثناء مرافقة إدريس إلى ملاعب الكرة، حيث لطالما تابعنا مباريات النهضة السطاتية، الفريق المفضل لديه، خاصة حين يواجه فرق العاصمة. مهما كبرت مشاغل الوزير، إلا أنه ظل حريصا على تخصيص هامش لحياته العائلية، لقد سألته في بداية عهدي به سؤالا صمد لسنوات: -السي ادريس كيف توفق بين التزاماتك داخل أسرتك الصغيرة وواجباتك المهنية، وأنت الذي تسهر من الساعة السابعة مساء إلى الساعة الخامسة صباحا، وتستقبل بلا كلل طوابير لا تنتهي من القيادات السياسية والنقابية ومن المخبرين، ورغم ذلك تستيقظ قبل العاشرة صباحا لتمارس مهامك الوظيفية بمقر الوزارة؟ هذا الرجل من طينة الكاردينال ريشليوه ومازاره أو سطالين، وغيرهم من صناع التاريخ، الذين لا ينامون إلا لدقائق، كان يشتغل بلا توقف وكأنه قاطرة بخارية قد تسير ببطء وصداع، لكنها تشق طريقها وسط الدخان، وهي خاصية كان يمتاز بها حفيظ بنهاشم في مديرية الشؤون العامة، الذي انتابته يوما نوبة مرض صادفت زيارة الحسن الثاني إلى تافيلالت، جعلته يعيش لدقائق خارج الوعي من شدة الضغط الدموي، وحين كنت أهم بنقله إلى المصحة استفاق ليمنعني قائلا: -بروكسي حقنة واحدة ستعيدني إلى حالتي الطبيعية. وعلى نفس المنوال، سار الشرقي الضريس، الذي كنت ألقبه ب»البصري الصغير»، لأنه يلتهم الملفات ولا ينتابه التثاؤب حين يسهر الليالي في دراسة القضايا التي تشغله. أصيبت قيادات الداخلية بأمراض قاتلة، فقد انتهى العامل الزيادي والمقرب من البصري بسرطان على مستوى الجهاز التنفسي، بينما عانى الراشيدي من سرطان خبيث في ساقه، بينما قضى الكثيرون في صمت لا يختلف كثيرا عن صمت دهاليز الداخلية. كان البصري يستعين بي في كثير من الملفات، خاصة تلك التي يحملها إلى بيته ويقضي ساعات في افتحاصها، ويده لا تفارق سماعة الهاتف، حين أغوص في قطاع الإعلام ينتشلني فجأة ويعيدني إلى ديوانه في أم الوزارات، التي لا تشتغل وفق روح الفريق، بل بالاعتماد على العمل الفردي وتأبط الملفات لتعميق النظر فيها في البيوت، وليس في ردهات الإدارة، وهو ما يفسر مناخ عدم الثقة الذي كان سائدا في تلك الحقبة.