في غفلة من كل المنظمات الدولية، الإنسانية منها والحقوقية، كانت أفواج من الأطفال الصحراويين تنقل نحو كوبا ليواصلوا دراستهم فيها، كان الهدف من هذه الرحلة هو تكوين الطلبة الصحراويين على الفكر الثوري وتأهيلهم ليكونوا قيادات في جبهة البوليساريو. كان الأطفال يفصلون عن آبائهم في سن مبكرة وعند بلوغهم سن الدراسة الإعدادية، وبحكم أن مخيمات تيندوف التي لم تكن تتوفر ولا تزال على بنيات للتعليم الإعدادي والثانوي، كانت كوبا الشيوعية قبلة لعدد كبير من الجنسيات من الدول التي تتبنى الفكر الشيوعي حيث اجتمع في مدارسها أطفال وشباب من كل الأعراق كان من بينهم أطفال صحراويون، حيث بدأت كوبا باستقبال أول الأفواج سنة 1985 السنة التي تأسست فيها أولى المدارس التي احتضنت الصحراويين بجزيرة الشباب بمدينة كماغواي التي تبعد عن العاصمة الكوبية هافانا بما يقارب 571 كيلومترا. في هذه الحلقات سنكشف اللثام عن قصة معاناة المئات من الأطفال والشباب الذين رحلوا إلى كوبا، في رحلة قاسية ظاهرها الثورة وطلب العلم وباطنها التحريض على الانفصال، من خلال قصة شاب صحراوي يحمل اليوم اسم موسى الموساوي المتحدر من أسرة صحراوية قاوم جده الاستعمار الفرنسي والإسباني بالصحراء المغربية. بعد سنوات من المعاناة داخل المخيمات، وبعد أن انتهى زمن إطلاق النار بين الطرفين عادت الحياة الرتيبة لتبدأ وسط مخيمات معزولة في منطقة معزولة جغرافيا تقتات على المساعدات الأجنبية في أكبر عملية ابتزاز دولية قامت بممارستها منظمة البوليساريو، وهي الشواهد التي تأكدت من خلال الزيارات المتكررة للجان المنتظم الدولي إلى المنطقة التي كانت شبه مقبرة للمساعدات الدولية، في هذه الأجواء ظهرت مجموعة من المدارس الابتدائية التي أنشئت من أجل احتضان أبناء المحتجزين، وأغلب هذه المدارس كانت تبنى من الطوب وبإمكانيات بدائية رغم أنها كانت تستقطب مساعدات أجنبية مهمة، حيث يحكي الأسرى المغاربة الذين كانوا بالمخيمات أن ميليشيات البوليساريو كانت تسخرهم في بناء هذه المدارس والعمل على تجهيزها من المعدات التي كانت ترسلها بعض الجمعيات الإنسانية من مختلف دول العالم. حيث إن أغلب المدارس التي لم تكن تتجاوز المستوى الابتدائي تم بناؤها بأيدي الأسرى المغاربة الذين كانوا يوجهون لأعمال السخرة الشاقة. في هذه الظروف، كان الأطفال داخل المخيمات، الذين أنهوا المراحل الابتدائية من التعليم، ملزمين بترك المخيمات من أجل إكمال دراستهم الإعدادية والجامعية وكانت الوجهة المفتوحة في وجههم، وقتئذ، هي كوبا الشيوعية على عهد فديل كاسترو. قصة موسى الموساوي تعكس قصة جيل بأكمله تم نقله من المخيمات إلى كوبا، فأصبح على حال المثل القائل «كالمستجير من الرمضاء بالنار» فبعد إكمال دراسته الابتدائية بمخيم السمارة دائرة بئر لحلو تم نقله رفقة مجموعة من أبناء جيله إلى مدرسة 9 يونيو الابتدائية سنة 1985 وكان مديرها، وقتئذ، هو أحمدو ولد سويلم، السفير الحالي للمملكة المغربية بمدريد، ومن بين اللحظات التي لاتزال عالقة بذهن الموساوي أنه كان يتعرض لحصة من التعذيب مرتين إلى ثلاث مرات أسبوعيا، إذ يتم كيهم بقضبان حديدية ملتهبة في مناطق متفرقة من الجسد، بحيث لا تزال بعض آثارها بادية على جسده، فيما آثارها النفسية لا يمكن أن تنسى خاصة أنهم لم يكونوا يعرفون أسباب تعرضهم لهذا التعذيب. وفي صيف سنة 1986 تم إخبار عائلات الأطفال بأنه سيتم نقلهم إلى دولة كوبا من أجل استكمال دراستهم الإعدادية والثانوية والجامعية، لم يكن للأسر خيار ثان وذلك لسببين، الأول غياب البديل، والثاني عدم امتلاك الأسر حق الرفض بحيث كان الأطفال ينتزعون من حضن أمهاتهم بالقوة ويتم إلقاؤهم في السيارات العسكرية من أجل ترحيلهم إلى كوبا وغيرها من الوجهات الأخرى بحيث كانت سوريا والجزائر من إسبانيا. بحكم الظروف التي كان يعيشها الأطفال والشباب داخل المخيمات فقد كان خبر السفر خارجها بالنسبة إليهم، خبرا سارا، حتى ولو كان نحو المجهول، المهم أن يغادروا أرضا لا يعرفون فيها إلا التعذيب ولغة الرصاص والحرب، بحيث قضوا صيف تلك السنة وهم يتهيؤون للسفر إلى أن بلغت نهاية شهر غشت من سنة 1986 حيث تم تنظيم حفل حضرته العائلات من أجل توديع أبنائها الذين سيغادرون إلى كوبا، كانت لوعة الفراق وفرحة السفر تختلط داخل قلوبهم الصغيرة، لكن حالة من التوجس كانت تتملكهم من حين لآخر، خاصة في تلك اللحظة التي حضرت فيها إلى المخيم مجموعة من السيارات التي ستتولى نقلهم، إذ رافقتهم عائلاتهم إلى مدينة تيندوف حيث كانت بانتظارهم بمطار المدينة مجموعة من المروحيات العسكرية، وكانت لحظة فراق الأهل رغم كل الأجواء المحيطة بالسفر لحظة قاسية على نفوسهم وأجهش الجميع بالبكاء وسط زغاريد النساء التي امتزج فيها الحزن على فراق الأبناء بالفرحة المؤجلة بأن يدرس الأبناء وأن يحصلوا مستويات متقدمة من العلم. نقلتهم المروحيات إلى مطار العاصمة الجزائرية حيث حطت بهم في مكان قريب من المطار الدولي «الهواري بومدين» وهناك قضوا ما يقارب عشرة أيام في ظروف أحسن بكثير من تلك التي عاشوها في المخيمات، إذ تم التعامل معهم بشكل إنساني رفيع من طرف السلطات الجزائرية بحيث كانوا يقيمون في دار للضيافة تحمل اسم «الدارالبيضاء» وهي إقامة كانت على مقربة من المطار الدولي للجزائر العاصمة، خلال فترة إقامتهم بالجزائر تم إخضاع الأطفال الصحراويين لمجموعة من الفحوصات الطبية المكثفة، وكان فريق من الأطباء الكوبيين المتخصصين، تم إرساله من كوبا خصيصا لهذا الغرض، يشرف على هذه الفحوصات. بعد قرب مغادرتهم للتراب الجزائري نحو كوبا لاحظ الأطفال أن بعض رفاقهم ممن كانوا معهم تم إرجاعهم إلى المخيمات حيث بلغ عدد المرفوضين عشرين طفلا لم يفهم الأطفال، آنذاك، أسباب رفضهم إلا أنهم عرفوا فيما بعد بأن أصدقاءهم مصابون بأمراض لا تخول لهم السفر إلى كوبا والاختلاط ببقية الأطفال والتلاميذ، وظل مصير العائدين مجهولا إلا أنهم عادوا إلى جحيم المخيمات ليواجهوا قدرهم. وفي اليوم السابع من شتنبر من نفس السنة تم نقل الأطفال الصحراويين في سيارات سياحية بمثابة حافلات صغيرة نحو مطار الهواري بومدين، حيث وجدوا طائرة كوبية ضخمة كانت بانتظارهم، عرفوا أنها كوبية من خلال العبارات المكتوبة بالإسبانية، كما أنها كانت تحمل العلم الكوبي الذي سبق أن استأنسوا به في بعض المقررات الدراسية في المرحلة الابتدائية، استقلوا تلك الطائرة الضخمة في أجواء كان الاكتشاف لعوالم جديدة ينسيهم المصير المجهول الذي يسيرون إليه. بعد رحلة طويلة حطت بهم الطائرة بمطار أوطاوا الدولي بكندا حيث قضوا به ثلاثة أيام، قبل أن تم نقلهم على متن الطائرة ذاتها إلى المطار الدولي بهافنا العاصمة الكوبية.