لقد تابعنا بعض المسرحيات التي كانت دون المستوى المطلوب، أداء ومضمونا وحتى إخراجا، ومع ذلك كانت فرقها تستفيد كل مرة من الدعم، في الوقت الذي أبدعت فيه فرق أخرى رغم صغرها في مناطق بعيدة عن المركز، لكنها لم تلق الدعم والسند. أين نحن مما نادى به المسرحي الفرنسي جون فيلار في خمسينيات القرن الماضي حين تحدث عن «دمقرطة المسرح» بدعمه وتعميمه على الشعب حتى يظل أبا الفنون ويحتفظ بدور التغيير الاجتماعي والثقافي؟ وفي هذا الصدد، أستحضر ما قاله الدكتور عبد الكريم برشيد في مقدمة لأعماله الكاملة، واصفا هذا الواقع المأزوم: "نرى التيار اليوم يتجه صوب الغياب والتغييب، أي تغييب الإنسان الحر والمفكر والعالم والشاعر، وفي المقابل يتم استحضار الإنسان الجسد، أي ذلك الزبون الذي يقتني السلعة... في هذا الزمن، إذن، يتم استبدال المسرح بالشاشة، ويتم استبدال المحتفل بالمتفرج، ويتم استبدال اللقاء الحي بالوقائع المسجلة، ويتم استبدال الحضور بالغياب، ويتم استبدال الفنان المبدع بالفنان الأجير أو الموظف». من جهة أخرى، لم تظل السينما المغربية بمعزل عن هذا الريع الذي يعرفه الشأن الثقافي أو الفني؛ فرغم الموارد البشرية والطبيعية أو الجغرافية، ورغم الدعم المتزايد من طرف الدولة (والذي وصل إلى 100 مليون درهم) لهذا القطاع الحيوي والحساس من حيث رمزيته الثقافية والإبداعية، ورغم إقبال الاستثمارات السينمائية الأجنبية (التي تجاوزت 600 مليون درهم)، لا زلنا لم نحقق صناعة سينمائية تجعل من السينما، فعلا، «قاطرة للتنمية البشرية والثقافية والاقتصادية»، كما كان يردد المسؤولون سابقا. وللتذكير، فقد جاء التقرير الثاني للمجلس الأعلى للحسابات السنة الماضية قاتما حول الشأن السينمائي في بلادنا، حيث أقر بعدة أزمات واختلالات شابت الوضع السينمائي المغربي، من بينها هدر المال العام في تدبير الموارد المالية، وعدم وجود "مقاربة مندمجة للإنتاج والاستغلال السينمائي" من خلال التراجع الملحوظ في عدد قاعات العرض السينمائية وفي تقلص جمهورها، وغياب معايير واضحة لانتقاء الأفلام المرشحة للدعم، وعدم توضيح شروط الاستفادة من الدعم عن طريق وضع دفتر للتحملات، والنقص في تنظيم المهرجانات على مستوى إعداد وتنفيذ البرامج... فالعديد من المهرجانات السينمائية التي تناسلت بشكل مفاجئ تعرف نفس البرمجة ونفس الوجوه ونفس الخطاب، بمعنى أن هناك شيئا اسمه التكرار والنسخ وهدر المال العام، بل هناك مهرجانات تسيرها شخصيات لا علاقة لها بتاتا بالسينما أو بالفن. ويمكن إضافة أمر خطير في بلادنا يعد من الريع وهو عدم انخراط الخواص في الاستثمار السينمائي أو في بناء القاعات السينمائية والترويج لها كما يفعلون مع المنشآت أو الاستثمارات الأخرى، بل أيضا عدم انخراط الحكومة في ذلك بشكل كبير، ففي يومنا هذا لا زلنا لم نرَ مشروعا سينمائيا حكوميا كبديل على تراجع القاعات، رغم الحديث المستمر عن المركبات السينمائية. نفس الأمر بالنسبة إلى معاهد التكوين التي تعد على رؤوس الأصابع; فاليوم ومع السياسة الجهوية الجديدة لن يكون كافيا معهدٌ واحدٌ، وهو الخاص بالمهن السينمائية والذي سيرى النور ربما في السنة المقبلة، بل سيصبح من اللازم أن تتوفر كل جهة على معهد خاص بها لتلبية حاجيات كل الشباب (المتزايد) الراغب في ولوج عالم السمعي البصري عموما والسينما خصوصا. كما لا زالت نفس شركات الإنتاج المغربية الكبرى هي التي تتحكم في الوضع السينمائي، وخاصة في التعامل مع الإنتاجات السينمائية العالمية، والاستفادة منها دون إفساح المجال لشركات أخرى. ومن بين مظاهر الريع المادي تلك الأموال التي تهدر في تلك المهزلة التي نشاهدها على قنوات القطب العمومي كل سنة خلال شهر رمضان، من أعمال كوميدية وسيتكومات استنفدت أغراضها حتى لا نقول ضعيفة، وجعلت المشاهد المغربي في حالة هجران دائم لقنواته الوطنية.. أموال كان بالإمكان استثمارها في عمل درامي أدبي أو تاريخي مغربي يصالحنا مع ثقافتنا وتاريخنا وذواتنا وننافس به الأعمال المشرقية التي تسرق الأضواء كل سنة وتعرف أكبر نسبة مشاهدة. وما دام إعلامنا يحافظ على تلك المهزلة رغم الانتقادات الموجهة إليه، فلن يتغير مشهدنا الثقافي والفني قيد أنملة. ب- الريع اللامادي: لا يعاني وضعنا الثقافي من الريع المادي فقط، بل أيضا من ريع خطير يتمثل في الريع اللامادي المتعلق بالإنتاج الفكري والفني والسينمائي الذي يتم دعمه أو الترويج له، مما يدفعنا إلى التساؤلات التالية: أية ثقافة يتم ترويجها اليوم؟ أي إبداع يتم الدفع به؟ وبأي مستوى لغوي؟ إن حالة من التسيب والعبث لحقت مؤخرا بجزء كبير من الإبداع الفكري والفني المغربي وبمستوى لغوي متدن، بدعوى إطلاق العنان للفكر والخيال والتعبير عن المكبوتات. كما أن ما يطفو على السطح بقوة هو ثقافة الاغتراب والقطيعة التامة مع الثقافة الأصيلة والأصلية للمجتمع المغربي، ومع قيمه وتمثلاته وتصوراته للإنسان والوجود، ومع تراثه الفكري والأدبي الذي يحتاج إلى التنقيب والتعريف به وإيصاله إلى العالمية؛ فبسبب العولمة الثقافية ("التي لا تبدو واضحة على الشاشات الصغيرة ولا تدركها أعين المواطنين الباحثين عن لقمة العيش»، كما عبر عن ذلك د.عبد العزيز المقالح في مقال له)، بل وقبل ذلك بسبب الغزو الفكري وتسلط القوى العظمى، انصب اهتمامنا على كل ما يأتينا من الآخر، خاصة الغربي، متعاملين معه بقدسية وصلت حد العبودية التي كبتت فينا تطلعاتنا إلى الانعتاق والتحرر وإلى النقد الرصين والتعامل مع الآخر (إبداعيا) دون مركب نقص. تستمر هذه الحالة في الوقت الذي نتحدث فيه عن المواطنة والوطنية ورد الاعتبار إلى الذات ولغتها وإلى المبدع المغربي. هذه الرؤية الثقافية الاغترابية ينعكس صداها على الأدب والسينما والمهرجانات الفنية؛ فبالموازاة مع مهرجانات فنية تهتم بالتراث الفني المغربي والإبداع الأصيل، توجد بكثرة مهرجانات بمضامين سلبية لا تساهم في رقي الفن المغربي، بل تطمس هويته وملامحه وتكرس التبعية الأجنبية، مما يستدعي انتهاج سياسة فنية وطنية تحفظ للفن المغربي الأصيل مكانته، طبعا دون النزوح إلى الانغلاق. أما في الجانب السينمائي الذي استأثر باهتمام بالغ في السنوات الأخيرة، فنجد أن جل الأفلام المغربية تتشابه في أطروحاتها الاغترابية والتغريبية وفي الاعتماد على الجرأة السلبية والإثارة المجانية (مخالفة بذلك القانون المؤطر للإنتاج السينمائي والدستور)، حيث تفتقر إلى العمق الفكري والفني وإلى معانقة تطلعات ونضالات وأحلام الشارع المغربي، بل تفتقر أحيانا إلى مواصفات مغربية صرفة، مبتعدة عن قضايا الوطن والهوية لفائدة قضايا شكلية (تحت غطاء حرية الإبداع) لا تهم الرأي العام. وهذا يعكس مدى غياب تصور سينمائي وطني شامل يعيد إلى الإبداع السينمائي مسؤوليته وجديته وغيرته على الوطن، وينتشله من عبثية ونزوات بعض مبدعيه. ونفس الشيء يسري على الفن برمته وعلى الثقافة التي تلعب دورا أساسيا في تكوين الإنسان والرقي بذوقه وتفكيره مع إعطاء غاية لوجوده التي تعتبر بوصلة حياته، إذا فقدها تاه في الوجود وتاه بين الخلق. إن الثقافة هي أساس الوجود الإنساني وغايته، وهي التي تشكل هويته وقيمه. وعليه، فنحن مطالبون اليوم، وأكثر مما مضى، ببلورة استراتيجية وطنية وواقعية وشمولية للخروج من الوضع المتردي الذي تعيشه الثقافة في بلادنا. دور المجتمع المدني في التصدي للريع على الرغم من كونه آلية تعمل داخل نطاق الدولة، فإن المجتمع المدني يلعب اليوم دورا أساسيا في التحولات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية التي نعيشها حاليا، إما من خلال مراجعة أو اقتراح العديد من الأمور في المجالات المذكورة أو الوقوف ضد انتهاكات حقوق الإنسان؛ وهذا ما يسمى بالمشاركة التفاعلية. ومن هنا، يأتي الحديث عن دور المجتمع المدني في التنمية البشرية، وفي بناء الديمقراطية ومشاريع النهضة... بخلاف الدستور القديم، جعل الدستور الحالي من المجتمع المدني فاعلا أساسيا في علاقته بالدولة، وجاء ذلك في الفصول 12 و13 و14 و15 من الدستور، إضافة إلى الفصل 33 الذي يتحدث عن إحداث مجلس استشاري للشباب والعمل الجمعوي. فالفصل 12 من الدستور ينص على ما يلي: "تساهم الجمعيات المهتمة بقضايا الشأن العام، والمنظمات غير الحكومية، في إطار الديمقراطية التشاركية، في إعداد قرارات ومشاريع لدى المؤسسات المنتخبة والسلطات العمومية، وكذا في تفعيلها وتقييمها. وعلى هذه المؤسسات والسلطات تنظيم هذه المشاركة، طبق شروط وكيفيات يحددها القان». كما أن نفس الفصل يؤكد على ضرورة أن يكون تسيير هذه الجمعيات من طرف المجتمع المدني مطابقا لمبادئ الديمقراطية. انطلاقا من هذا المعطى الجديد، أصبح من الضروري لهيئات المجتمع المدني أن تمارس دورها الرقابي من أجل القطع مع الماضي، وأن تكشف ملفات الفساد في حالة تخلف الحكومة عن ذلك، مع الالتزام بالشفافية والنزاهة ونبذ الحزبية والمحسوبية والزبونية التي كانت تنخر جسم المجتمع المدني سابقا، ومع إقرار مبدأ التنوع والتعدد وشرعية الاختلاف في ظل ثوابت المجتمع المغربي. وعليه، ونحن نمر بمرحلة سياسية انتقالية تجر معها ولا شك رواسب الماضي، فمن اللازم على فعاليات المجتمع المدني أن تنخرط في محاربة الريع الثقافي بكل أشكاله بدون خوف وإلا سيصبح الخوف جزءا من ثقافة الريع والصمت ريعا باعتباره تواطؤا. رغم أننا نعتقد جازمين أن محاربة الريع الثقافي أو أي شكل من أشكال الريع تتطلب الإرادة السياسية لدى المسؤولين، فإن مواجهته من طرف المجتمع المدني أضحت يسيرة اليوم في ظل التكنولوجيات الحديثة التي كان لها دور قوي في الربيع العربي، حيث سهلت الوصول إلى المعلومة وغلى المعرفة التي «أصبحت متاحة للضعفاء مثل الأقوياء، وللفقراء مثل الأغنياء، وللمغلوبين مثل الغالبين، وللمقهورين مثل المستبدين،... وأدت إلى انحسار نخبوية الثقافة ونهاية ديكتاتورية المثقفين ووصايتهم ومنح أنفسهم الحق دون غيرهم في التصرف والإملاء والادعاء» (د. فهد العرابي الحارثي، «الثقافة الأفقية وموت النخب»). ناقد فني وسينمائي