تدور في عالم اليوم حرب كونية للسيطرة على المستقبل.. مستقبل البشرية. وليس للعرب والمسلمين دور في هذا الصراع، لذلك من المرجح أن يُستعمر مستقبلهم، كما استعمر حاضرهم.. لكي يكون لنا مكان في هذا العالم لا بد من مصالحة العقل العربي -الإسلامي مع المستقبل.. وهذه السلسة محاولة لتأصيل الفكر المستقبلي في الإسلام، حيث يكون العقل المسلم قادرا على التعامل مع الزمان الآتي واستشراف المستقبل بثقة ومنهجية وعلم، دون أن يخطر بالبال أن في ذلك محذورا شرعيا.. وقدوتنا في هذا هو نبينا العظيم، عليه أزكى الصلاة والتسليم.. خاصة مع هذا الشهر الكريم.. شهر رمضان. رأينا كيف فرّق الإسلام بين التوقع الموضوعي والتنبؤ الخرافي، من خلال فنون الكهانة والعرافة والاستقسام والخط.. واليوم ندرس الموضوع من زاوية التفرقة النبوية بين الفلك والتنجيم خاصة. التنجيم هو الاستدلال بحركات الكواكب والنجوم وأوضاعها على حوادث الأرض ومستقبلها.. وهو نوعان: 1-تنجيم عام يتعلق بمستقبل جماعة أو مدينة أو شعب أو حتى بمستقبل الإنسانية كلها؛ 2-تنجيم خاص يبحث عن مستقبل فرد معين وأحداث حياته المقبلة. وهذا فن قديم، وما تزال له إلى اليوم سطوة وشهرة.. لكنه فنّ فاسد، يقوم على أسس واهية وليس له أي دليل على أن ما يقع في السماء والأفلاك يؤثر على الحياة العادية لملايين الناس.. كما أنه لا حجة له في ادّعائه القدرة على التنبؤ بالمستقبل انطلاقا من دراسة أوضاع النجوم.. وقد أبطل كثير من العلماء والفلاسفة صناعة التنجيم، لا في الشرق ولا في الغرب. وكنت -بفضل الله- ممن درس هذا الفن في التراثين الإسلامي والأوربي وانتقده وردّه بالمعقول والمنقول، في كتاب خاص، فليراجع، لأن التنجيم اليوم «علم» مستقل وإشكالاته كثيرة.. فلا يمكن أن أتكلم عنه هنا بأكثر مما فعلت (انظر مدونتي على النت). والمقصود أن نبي الإسلام أبطل التنجيم من أصله، فهو إذن من جملة فنون التوقع الخاطئ: روى ابن عباس أن الرسول الكريم قال: من اقتبس علما من النجوم اقتبس شعبة من السحر، زاد ما زاد. قال الشوكاني: «أي زاد من علم النجوم كمثل ما زاد من السحر، والمراد أنه إذا ازداد من علم النجوم فكأنه ازداد من علم السحر». وقال الخطيب البغدادي: «إن قيل كيف أضاف النبي صلى الله عليه وسلم علم النجوم إلى السحر؟ فالجواب لأنهما وقعا من التمويه والخداع والأباطيل موقعا واحدا، إذ النجوم لا فعل لها في خير ولا شر، وإنما الله تعالى الفاعل عند حركتها، وكذلك السحر». علم الفلك في الحديث الشريف ولله در نبي الإسلام، فهو قد أبطل التنجيم الخرافي وأقرّ الفلك العلمي، فأنقذ العقل البشري من التخبط ووجّهه إلى ما ينبغي له أن يجتهد فيه... وهذا توجيه معرفي -أو بلغة اليوم إبستيمولوجي- عظيم، لم يعرف في الغرب إلا منذ قرون قليلة. وقد أخذ المسلمون بهذا التوجيه النبوي، فميزوا بين التنجيم -أو علم التأثير- وبين الفلك أو علم التسيير. ولمّا سئل الحافظ البغدادي عن النجوم وضع في ذلك رسالة صَدّرها بقوله: «إن علم النجوم يشتمل على ضربين: أحدهما مباح وتعلمه فضيلة، والآخر محظور، والنظر فيه مكروه. فأما الضرب الأول فهو العلم بأسماء الكواكب ومناظرها ومطالعها ومساقطها والاهتداء بها، وانتقال العرب عن مياهها لأوقاتها وتخيرهم الأزمان لنتاج مواشيها وضرابهم الفحول ومعرفتهم بالأمطار، على اختلافها، واستدلالهم على محمودها ومذمومها، والتوصل إلى جهة القِبلة بالنجوم ومعرفة مواقيت الصلاة وساعات الليل بظهورها وأفولها. وقد جاء كثير من ذلك في كتاب الله، عز وجل، وفي الآثار عن رسول الله وعن أخيار الصحابة والتابعين ومن بعدهم من العلماء الخالفين». ثم قال: «وأمّا الضرب الثاني، وهو المحظور، فهو ما يدّعيه المنجمون من الأحكام».. ولكثير من المحدثين مثل هذا الكلام، وبعضه نفيس ككلام الخطابي، ولولا خشية التطويل لنقلتُه هنا. ومما يُروى في فضل علم الفلك عن النبي، صلى الله عليه وسلم: أحَبّ عباد الله إلى الله رعاء الشمس والقمر.. وفي: رواية خيار عباد الله. أي يلاحظون الشمس والقمر ويتتبعونهما ليستخلصوا مواقيت التعبد.. وصح عن النبي، صلى الله عليه وسلم، أنه قال: إذا طلع النجم، ارتفعت العاهة عن كل بلد، وفي لفظ: إذا طلعت الثريا أمن الزرع من العاهة. قال الطحاوي: المقصود برفع العاهة عنه هو ثمار النخل. وذكر المناوي أن ذلك في العشر الأواسط من أيار (ماي) فآنذاك يبدو صلاح الثمرة في الغالب، فيجوز البيع والادخار. والمقصود أن الحديث يقر الاستفادة من ظواهر السماء والتعويل عليها في شؤون الناس على الأرض. بل إن السنة حفظت لنا كلاما عزيزا للنبي الكريم يكشف فيه عن قاعدة من قواعد التوقعات الجوية. فقد أورد الإمام مالك أنه بلغه أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، كان يقول: إذا أنشأت بحرية ثم تشاءمت، فتلك عين غديقة. ومعناه -كما قال السيوطي- أنه إذا ظهرت سحابة من ناحية البحر، ثم أخذت اتجاه الشام، فسيكون ماؤها مطرا أياما لا يقلع.. وهذا الحديث هو أحد بلاغات «الموطأ» الأربعة، ومقتضى كلام العلماء في أسانيده أنه حسن. وقد يُعترَض على هذه الأخبار بما صح عن زيد بن خالد الجهني، قال: صلى لنا رسول الله صلاة الصبح بالحديبية على إثر سماء كانت من الليل. فلما انصرف أقبل على الناس، فقال: هل تدرون ماذا قال ربكم؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: قال: أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر. أما من قال: مطرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب. وأما من قال: مطرنا بنوء كذا وكذا فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب. ومعنى النوء طلوع نجم وغروب ما يقابله، أحدهما في المشرق والآخر في المغرب، وكانوا يعتقدون أنه لا بد عنده من مطر أو ريح ينسبونه إلى الطالع أو الغارب.. وفقه الحديث هو كما قال المازري: «من اعتقد أن لا خالق إلا الله سبحانه، ولكن جعل في بعض الاتصالات من الكواكب دلالة على وقوع المطر من خلقه تعالى عادة جرت في ذلك، فلا يكفر بهذا.. والظن بمن قال من العوام: هذا نوء الثريا ونوء الراعي، أنه إنما يريد هذا المعنى». وإنما جاءت الآثار بالتغليظ فيه لأن العرب كانوا يزعمون أن ذلك المطر من فعل النجم ولا يجعلونه من سقي الله تعالى. من فقه الإمام مالك كان مالك دقيقا في هذا الموضوع، فقد عقد في «الموطأ» بابا للاستمطار بالنجوم، بدأه بحديث زيد في النوء لتصحيح العقيدة وإثبات شمول فعل الله تعالى لكل شيء، ثم ثنى بحديث إذا أنشأت بحرية.. كأنه يريد أن هذا المعتقد لا يمنع دراسة الظواهر الجوية وتوقعها. وأخيرا ختم بخبر: كان أبو هريرة يقول إذا أصبح وقد مطر الناس: مطرنا بنوء الفتح، ثم يتلو قوله تعالى: (ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها .. الآية) للدلالة على أن استعمال لفظة النوء -وما يشبهها- غير ممنوع متى سلم الاعتقاد والتوحيد. خاتمة لقد ألغى الرسول الكريم أشكال التنبؤ كافة، وهي التي لا تقوم على منهج من العلم والفكر واضحٍ ومنضبط... وفي المقابل، أجاز أساليب الاستشراف السليم، وهو الذي يقوم على قواعد وأصول صحيحة. وبهذا ميّز النبي العظيم بين طريقين وسبيلين في الجهد البشري الهادف إلى توقع بعض الزمان الآتي. يتبع..