«حلم بعضهم بالكثير قبل أن يتحطم حلمه ويعود من جديد ليلملم حطام هذا الحلم بحماسة شعبه ويبني له مكانا للحلم الجديد، معليا همما وعزائم ومحررا شعوبا وقبائل وراسما خريطة لشعبه إلى معترك التاريخ.. تمرَّد وثار حتى تحقق هذا الحلم.. حلم غلبت عليه خيبة الأمل لدى آخرين بعد أن تراجعوا بأنفسهم وشعوبهم إلى الوراء، مقنعين إياهم بأن الحياة ترجع إلى الوراء أحيانا بعد أن استلم بعضهم الحكم بالوراثة وبعد أن ثار وتمر َّد بعضهم حتى وصل إليه، فضيعوا شعوبا ومسحوا دولا وقتلوا وشرّدوا أمما حتى وجدوا مكانا لهم في محكمة التاريخ لتصدر الحكم في حقهم رغم بقاء آخرين في خانة اللجوء والثورة والتمرد حتى رحيلهم, محقَّقاً حلمُهم أو غير محقق... فمنهم من نجحوا ومنهم من سقطوا دون أن تسقط عنهم هالات الحب والتقديس، وهالات اللعنة أحيانا، لكونهم شخصيات تاريخية هزت البشرية»... في صبيحة يوم الرابع عشر من أبريل من العام 1913 غادر العاهل الإسباني ألفونسو الثالث عشر بلاده مُتجها إلى روما التي توفي فيها في العام 1941 بعد رفضه التنحي عن العرش ورفع الجيش الإسباني الحماية عنه نتيجة معارضته قيام الجمهورية الإسبانية الثانية وإلغاء الملكية حسب النداءات التي قام بها التيار الجمهوري خلال عشرينيات القرن الماضي، وهي نداءات أجريت من خلالها (في العام 1931) الانتخابات البرلمانية والبلدية في ظل أجواء ملتهبة بين أنصار التيار الملكي الداعي إلى استمرار الملكية والتيار الجمهوري الداعي إلى إلغاء الملكية وإعلان الجمهورية الإسبانية الثانية. الحياة الاشتراكية العقيمة كان فرانسيسكو فرانكو قد بدأ حياته العسكرية بالانخراط بالجيش الملكي الإسباني (وُلد فرانسيسكو فرانكو في 4 ديسمبر 1892)، الذي انتقل معه لمحاربة المقاومة المغربية للاحتلال الإسباني الذي أخذ يغزو أراضيهم عبر ما اصطلح عليه بحرب الريف، وهي نفس المنطقة التي انطلق منها مُعلنا الثورة على النظام في إسبانيا في 18 يوليوز 1936 بعد أن حشد جيشه الكبير وضباطه بالمستعمرات المغاربية من جهة والسماح للشباب المغربي بالانضمام إلى جيشه نتيجة للإغراءات التي أخذ يقدمها لهم، حتى فوجئت الحكومة الجمهورية بأبناء المستعمرات وقد أخذوا بغزو البلاد الإسبانية بعد أن وافقوا على الانضمام إلى صفوف ثورة فرانكو نتيجة للإغراءات المالية الكبرى التي قدمها لهم وخيب آمال الحكومة الإسبانية، التي طالما كان إيمانها شديدا بعدم انخراط وقبول أبناء المستعمرات الدخول في الحرب حليفة لفرانكو تحت بند الحفاظ على الهوية الوطنية... من المنفى إلى الحكم المطلق شرع فرانكو يُحضّر لثورته بعد إبعاده من إسبانيا التي عارضت حكومتها طلبه بإعلان حالة الطوارئ نتيجة حالة الفوضى التي أخذت تعُمّ البلاد بعد أن تم حلّ البرلمان وأجريت انتخابات جديدة في شباط/فبراير 1936 والتي نجم عنها انقسام الأحزاب السياسية الإسبانية إلى فئتين هما: الكتلة القومية اليمينية والجبهة الشعبية اليسارية التي فاز أصحابها بأقلية ضئيلة حالت دون سيطرتهم على مقاليد الحكم في إسبانيا، وكانت تلك الفوضى السلاح الرئيسي لفرانكو، الذي شعر بقدوم ساعة الصفر من منفاه بجزر الكناري بعد أن أحاط نفسه بالثائرين من أفراد الجيش الذي انطلق للملمة صفوفه من مدينة تطوان معتمدا على عاملين أساسيين هما انخراط الجيش وإخضاعه تحت سيطرته من جهة، والسماح للشباب المغربي بالانضمام إلى جيوشه بعد أن قدّم لهم الإغراءات المالية الكبيرة التي أصابت الحكومة الإسبانية في مقتل نتيجة لإيمانها القاطع بعدم انضمام أبناء المستعمرات إلى فرانكو والثائرين معه نتيجة اعتمادها وتفسيرها لهذا الرفض انطلاقا من خانة التمسك بالمبادئ الوطنية. سرعان ما وجد فرانكو نفسه قائدا للثورة التي انطلق معها فجر يوم 18 يوليوز 1936 وبدأ بنقل قواته من تطوان إلى البر الرئيس عبر مضيق جبل طارق نتيجة للمساعدات التي حصل عليها من ألمانيا النازية وإيطاليا الفاشية، إذ زوده كل من هتلر وموسوليني بجسر جوي لإنزال قواته على البر الرئيسي متقدما باتجاه مدريد للإطاحة بالحكومة التي كان لها الدور الرئيسي في مقتل زعيم الثوار خوسيه سان هورهو وانتخاب فرانكو قائدا لها وزعيما للثورة وللحكومة القومية التي أعلن عنها في مواجهة الحكومة الجمهورية نظير مؤهلاته العسكرية وسمعته وبعده عن النزاعات الحزبية التي كانت تعصف بإسبانيا، إضافة إلى كونه مؤهلا للحصول على المساعدات من ألمانيا الهتلرية وإيطاليا الفاشية، حتى تمت له السيطرة على البلاد وتحقيق نصره في ابريل 1939 بعد حرب أهلية دامية ودموية بلا جدال دامت قرابة الثلاث سنوات مارس فيها الطرفان وحشية متناهية ونفذ فيها وبعدها النظام القومي الجديد إعدامات جماعية طالت عشرات الآلاف حتى صارت وصمة عار على نظام فرانكو نفسه.. الفالانج.. الكوديللو بدأ فرانسيسكو فرانكو حكمه لإسبانيا عن طريق حزب الفالانج، أي حزب الكتائب (وهو نفسه الحزب الذي أراد الزعيم اللبناني بيير الجميل تقليده بعد أن أنشأ في لبنان حزب الكتائب) وقلد فرانكو كلا من هتلر وموسوليني في أن جعل نفسه زعيما وأبا لإسبانيا بعد أن أطلق على نفسه لقب «الكوديللو» أي زعيم الأمة تيمنا بهتلر الذي أطلق على نفسه «الفوهرر» وموسيلني «الدوتشي»، وكان من المفترض أن ينهار نظام فرانكو بعد الحرب العالمية الثانية كما انهار كل من نظام هتلر وموسوليني لولا حالة الحياد التي أعلنها فرانكو لإسبانيا في الحرب، محاولا في ذلك الحفاظ على مكانة إسبانيا وتعظيم شأنها وعدم استنزاف قواتها وثرواتها، قبل أن يبدل سياساته بدافع إعادة الأمجاد والعظمة، خاصة بعد سقوط فرنسا في يونيو 1940 ويبدأ بانتهاج سياسة الود مع هتلر عازما دخول الحرب إلى جانبه طمعا في الحصول على مساعداته المادية والعسكرية ومنح إسبانيا معظم الممتلكات الفرنسية في شمال غرب إفريقيا رغم أن مثل هذه الطلبات جوبهت برفض قاطع من هتلر نفسه، الشيء الذي جعل فرانكو يعود ببلاده إلى حالة الحياد التام سنة 1943 ويبدأ حكمه يعاني من الأزمات بعد انتهاء الحرب وبعد أن نبذت حكومته من طرف الأممالمتحدة والرأي العام العالمي، ليتخندق سريعا في المجتمع الدولي ويبدأ في مناوأته للشيوعية منذ العام 1948 ويزداد انغماسا في الشؤون الدولية التي حصل جراء لها على المساعدات العسكرية الأمريكية ابتداء من العام 1953 قبل أن يدخل إسبانيا عضوا في منظمة الأممالمتحدة عام 1955... رفض الاعتراف ب(إسرائيل) بعد تشديد قبضته على الدولة بدأ فرانكو يُفكر في طريقة يحافظ بها على حكومته بعد وفاته عن طريق استفتاء رسمي قام بإجرائه عام 1947 جَعل معه إسبانيا دولة ملكية ومُنح سلطة الوصاية مدى الحياة معيّنا بذلك الأمير خوان كارلوس (حفيد الملك السابق الفونسو الثامن) خليفة له بعد وفاته قبل أن يستقيل من الحكومة عام 1973 مكتفيا بمنصبه رئيسا للدولة وقائدا أعلى للقوات المسلحة ورئيسا للحركة، وتحوّل بذلك من قائد عسكري إلى زعيم مدني ورجل دولة كشفت فترة حكمه الوجه القبيح للغرب الذي يرضى ببقاء الديكتاتوريات في السلطة، التي بقي فيها لمدة ستة وثلاثين عاما ورئيسا للوزراء لمدة أربعة وثلاثين عاما، قبل أن يترك مقعده هذا قبل عامين من وفاته في العشرين من نوفمبر 1975 تاركا مخلفات سياساته الداخلية الديكتاتورية التي رفض من خلالها الاعتراف ب(إسرائيل) وعصره المناهض للفن والثقافة والجمال بعد أن طاردت قواته الشعراء والفنانين واغتالت الكثيرين منهم، وعلى رأسهم الشاعر والكاتب فيدريكو غارسيا لوركا الذي عدّ من أهم مفكري القرن العشرين، وبعد أن أعلن إسبانيا دولة ملكية وتنصيب خوان كارلوس ملكا لها الذي سارع إلى حلّ المؤسسات الديكتاتورية لنظام فرانكو وشجع على إحياء الأحزاب السياسية حتى حظيت إسبانيا بصرح من الحريات والرخاء الاقتصادي وتحولت إلى بلد ديمقراطي ملكي دستوري.