خلال الشهور الأولى للثورة السورية، كنا على نحو ما نعرف شهداء الثورة السورية، نعرف أسماءهم أحيانا، أسماء بلداتهم في أحيان أخرى، نعرف أعمارهم، ونرى وجوههم التي أطفأت رصاصات القتلة الحياة في ملامحها. لم يكن شهداء سورية قد أصبحوا أرقاما بعد. كانت أعدادهم اليومية قابلة للتصور، مهما كانت طبيعة هذا التصور: عشرون أو أكثر قليلا في اليوم الواحد. اليوم لم يعد للشهداء من أسماء، بعد أن أصبحت أعدادهم اليومية بالمئات. ولأن الجغرافية السورية احتلت غرف جلوس الأسر العربية منذ أمد، يكاد العرب يعتادون الموت المتكرر في الرستن وبرزة، في القابون ودوما، وفي دير الزور والتل. تذكرت كم تغيرت وتيرة هذا الموت وأنا أرى ما تسرب من مشاهد المذبحة التي ارتكبتها قوات النظام في معضمية الشام. عشرات من القتلى في يوم واحد، في بلدة سورية صغيرة، قتلى بلا أسماء ولا روايات ولا سيرة وظيفية. من يملك فسحة الوقت ليخبرنا، من في خضم هذا الموت العاصف بلا رحمة ولا حساب ولا مودة، يجد من اللائق الأخذ بأيدينا لنعرفهم قليلا، لنقدم واجب العزاء إلى من تبقى من أسرهم وعائلاتهم، كما يجب أن يقدم العزاء في تقاليد هذا الشرق العظيم. من يعرف كم واحدا منهم مات إعداما، كم واحدا منهم مات ذبحا، وكم كان عدد أولئك الذين أحرقت جثثهم. هل كانوا.. ثمانين، تسعين أم أكثر؟ وهل هم أول ضحايا الثورة في معضمية الشام أم فوجها الثاني أم الثالث؟ من يعرف يا ترى؟ ولماذا لا تقدم إلينا إحصائية تليق بهذا الموت؟ أليس من الضروري أن تكون هناك إحصائية لكل موت؟ ألسنا نعيش زمن الإحصائيات والتقارير المصنفة؟ كيف لنا أن نصدق، وأن نقنع زملاءنا في قاعات الدرس، أو أصدقاءنا في وسائل الإعلام، أو رفاقنا في الأحزاب العربية السياسية، أن السوريين يموتون، ويموتون بلا توقف منذ ما يقارب العام ونصف العام، من أجل مطلب واحد بسيط: أن يعيشوا أحرارا كرماء في وطنهم؟ أليس من المنطقي الاعتراف بأن ليست الدول فقط، وإنما الساحة السياسية والثقافية العربية منقسمة حول سورية؟ كيف يمكن لعاقل أن يتجاهل أن الكثيرين، ممن يكتبون العربية كما تنبغي الكتابة بالعربية، يصفون هذه القيامة السورية بالأزمة، أزمة إقليمية، أو أزمة نظام في مواجهة قوى إرهاب عربية - سلفية، ولا يرون فيها ثورة شعبية أصلا؟ أيها الأصدقاء، لم يعد من مسوغ لهذا الجدل، تماما كما أن المدن السورية توشك أن تفقد ما يستدعي القتال حوله. نعم، هذا نظام حمل، على نحو أو آخر، راية القومية العربية، ووقف، مرارا وتكرارا، مع قوى المقاومة، اللبنانية والفلسطينية. نعم، هذا النظام لم يكن مرضيا عنه من القوى الغربية، والولايات المتحدة على وجه الخصوص، وكان خصما للدولة العبرية. من يتذرع لمعارضة النظام أو إدانته بمقولات تنكر ذلك لا يستحق النظر إليه بشيء من الجدية أو الاعتبار. ولكن هذا النظام كان أيضا نظام أقلية، أقلية طائفية وحزبية ومالية-اقتصادية. وقد حكم هذا النظام سورية بالحديد والنار، ليس منذ تولى بشار الأسد الحكم، ولكن منذ أكثر منذ خمسة عقود، على الأقل. كان النظام يقاتل إسرائيل بيد ويقاتل السوريين باليد الأخرى، كان يعمل على تعزيز دور سورية العربي والإقليمي ويضع خيرة أبناء سورية في السجون والمعتقلات: مناضلون حزبيون، إسلاميون وغير إسلاميين، قوميون وغير قوميين، مثقفون وطلاب، ونشطون حقوقيون.. بعضهم أدين بمعارضة النظام أمام محاكم لا تتوفر لها الشروط الدنيا من العدالة، وبعضهم الآخر لم يكن يعرف بأي تهمة اعتقل؛ بعضهم لم يغادر المعتقل إلا بعد عقود، وبعضهم توفي في إحدى سني اعتقاله أو قتل تحت التعذيب. هل ثمة دولة بين دول المشرق بات يؤشر على تاريخها بسلسلة المذابح المتتالية، التي ارتكبها النظام ضد شعبه ومدن بلاده، مثل سورية؟ وهذا النظام استباح مقدرات سورية وثرواتها بلا حساب. قلة صغيرة من المقربين، أو المقربين من المقربين، أو شركاء المقربين، من فتحت لها في السنوات الأخيرة أبواب الثروة وتكديس الأرباح. وكان يكفي أن تتجول في شوارع دمشق، بصحبة أحد أبنائها، لتدرك كيف تسيطر قلة الحكم على أكبر شركات الإنتاج والخدمات والتجارة، وكيف يتم تركيع الأكثرية ليتاح لها بعض ما تبقى من هامش السوق. عرف تاريخ هذا المشرق الفسيح محطات من الغزو أو الوباء أو القحط، وما ولدته أحيانا من حاجة أو جوع. سورية تكاد تكون الاستثناء الوحيد، البلاد التي لم تعرف الحاجة أو الجوع حتى في أثقل محطات تاريخها وطأة. في السنوات القليلة الماضية، عرفت سورية الفقر المدقع، عرفت معدلات بطالة لم تعرفها في تاريخها، وتكدسا متفاقما على هامش المدن. هذا، وسورية لم تزل إحدى الدول القليلة ذات الكثافة السكانية المنخفضة، الكثافة التي تقل عن متطلبات البلاد للتنمية والارتقاء. وإن كان سجل النظام محل جدل، فكيف يمكن تبرير مواجهة المتظاهرين الأوائل في دمشق، وبعضهم من أبرز رجالات سورية ونسائها، بالإهانة والضرب والاعتقال؟ كيف يمكن فهم حفلة الموت التي أقامها النظام لأطفال درعا ورجالاتها، ولم يكن هناك بعد من مسلح، سوري أو غير سوري، مدفوع إقليميا أو غير مدفوع، سلفي أو غير سلفي؟ قبل اثنتي عشرة سنة، أتيحت للنظام فرصة للإصلاح وبناء شرعية حقيقية لم تتح لأي نظام عربي. ولم يكن السوريون يومها يطلبون الكثير. وبعدها بخمس سنوات، عندما عقد مؤتمر الحزب الحاكم وسط متغيرات إقليمية ودولية كبرى، أتيحت للنظام فرصة ثانية. وبعد أن نجحت نضالات العراقيين واللبنانيين والفلسطينيين في وضع حد لجموح سياسة السيطرة بالقوة والعنف التي اتبعتها إدارة بوش الابن، أتيحت للنظام فرصة ثالثة. وبانطلاق رياح الثورة العربية في تونس ومصر، أتيحت للنظام فرصة رابعة. وفي بدايات الحركة الشعبية السورية، بدايات دمشق ودرعا وبانياس وحمص، كان على النظام أن يرى فرصته الأخيرة في الإصلاح. في كل مرة، أثبت هذا النظام أن ليس لديه من نية جادة للإصلاح أو مقابلة الشعب في منتصف الطريق. الأقلية الصغيرة، التي أحكمت قبضتها على سورية بالقوة والعنف منذ عقود، لم يكن ضمن حساباتها أن تشرك الأكثرية في الحكم أو الثروة، بأي صورة من الصور. لم يواجه هذا النظام مطالب الحرية والكرامة بالقوة السافرة وحسب، ولكنه تبنى سياسة تدمير منهجية لبنية سورية الوطنية، لمدنها وتاريخها على السواء. في حديث بين المقتول آصف شوكت وشخصية عربية قبل أشهر قليلة، قال شوكت: «إن كان علينا في لحظة ما أن نترك الحكم والسلطة، فلن نترك خلفنا من حجر على حجر». وكان شوكت يقصد بالتأكيد ما قاله، يقصد ليس حجارة البناء وحسب، ولكن حجارة الاجتماع والسياسة والاقتصاد كذلك، الحياة السورية بأكملها. أوغل النظام في دماء السوريين بلا حساب، ونشر بعضا من أفضل فرق الجيش العربي السوري -الجيش العربي السوري- لتدك شوارع مدن زرعت أقدامها على مسرح التاريخ قبل ولادة هذا النظام بمئات أو آلاف السنين، لتدك مآذن مساجد، رسمت ملامح تاريخ سورية وشعبها، وتدك قلاعا تقف منذ قرون شاهدة على مجد هذه البلاد وشعبها. أليس هذا النظام، النظام القومي العربي، من حاول في بداية الثورة رشو الأكراد السوريين؛ وعندما أخفق في احتواء معارضتهم لوجوده، أخذ في تسليم مدنهم وبلداتهم لشركاء حزب العمال الكردستاني، الحزب القومي الانشقاقي؟ أليس هذا النظام، النظام القومي العربي، الذي يتعهد منذ شهور حرب إبادة وتطهير طائفية في ريفي حمص وحماة، ليقتلع السوريين العرب السنة من بلداتهم وقراهم، ويؤمن لنفسه فضاء علويا احتياطيا؟ أليس هذا النظام، النظام القومي العربي، من يحاول اليوم إثارة مخاوف الجماعات الوطنية السورية من بعضها البعض، وتسليح السوريين المسيحيين للاصطفاف ضد مواطنيهم الثائرين عليه؟ ما الذي تبقى من قومية النظام وهو يعمل على تشطير الشعب السوري وتقويض الوطنية السورية من جذورها؟ كيف يمكن أن يؤتمن هذا النظام بعد اليوم على مقدرات العرب وهو لا يؤتمن على مقدرات سورية نفسها، على مقدرات الشعب الذي ولدت العروبة في أحضانه؟ هذه أزمة إقليمية، صنعتها وتحرض عليها أطراف خارجية، مثل تركيا وقطر والسعودية؛ وهذه معركة أخرى من معارك دول المشرق ضد جماعات أصولية-إرهابية، تجوب المجال العربي والإسلامي، من أفغانستان إلى الشيشان، ومن الجزائر إلى العراق وسورية، يقول مسؤولو النظام وأصدقاؤه. نعم، هناك دعم تركي قطري سعودي ما لقوى الثورة، وربما هناك عدد صغير من المتطوعين العرب، الذين هبوا لنصرة أشقائهم في سورية، تماما كما أن فلسطينيي المخيمات السورية، وبالرغم من الضغط الهائل الذي تعرضوا له، لم يعد بإمكانهم الصمت إزاء المذابح التي يتعرض لها إخوتهم، الذين احتضنوهم بلا تمييز ولا منة منذ عقود. ولكن، أليس لنا أن نتذكر أن شهورا طوالا مرت من عمر هذه الثورة وكبار المسؤولين الأتراك والقطريين والسعوديين يترددون على دمشق، الزائر منهم تلو الآخر، يتوسل وضع حد لهذا الدمار وإيجاد مخرج من مغالبة القلة الحاكمة لشعبها؟ وأليس لنا أن نتذكر أن قلة منا لم تعترض أو تتنكر للشبان العرب وهم يتوجهون إلى العراق، فوجا وراء فوج، للوقوف مع العراقيين العرب من أشقائهم ضد الاحتلال والمتواطئين معه؟ في الأدبيات القومية العربية، كما في الأدبيات الإسلامية، هذه أمة واحدة، حتى وإن افترقت إلى دول وجماعات وطنية؛ فكيف كان مفهوما للعربي طوال قرن من الزمان أن يقاتل في الجزائر وفلسطين والعراق، وبات من الإرهاب أن يقاتل اليوم في سورية؟ أيها الأصدقاء لم يعد من مسوغ لهذا الجدل حول سورية.. سورية تعيش ثورة تعيد التاريخ العربي إلى سياقه الجدير به. لقد رمت سورية بفلذات أكبادها في مواجهة هذا الخراب، خيرة شبابها ومثقفيها وأفضل عقولها. فإن كان هناك من حرص على سورية وشعبها، فليكن في العمل من أجل أن تحقق هذه الثورة أهدافها بأسرع وقت، أن تتاح للسوريين فرصة للملمة جثث أبنائهم وتضميد جراح وطنهم، قبل أن يستطيع النظام الفاشستي في دمشق تدمير ما تبقى من بنية سورية، قبل أن يتركها، فعلا، بلا حجر على حجر. بشير موسى نافع