«... اكتفت بدور الزوجة والأم قبل أن يختار لها الآخرون لقب زوجة الزعيم.. قررت أن تلتصق ببطلها كالخيال وتواجه معه الكثير من العواصف والأعاصير والزلازل السياسية، التي اهتز لها العالم بأسره. سكنت قلبه وسكن قلبها قبل أن تسكن معه في عش الزوجية الصغير المتواضع بالإيجار بعيدا عن صور البهرجة والبروتوكولات الفارطة.. لم تصطنع لنفسها دورا كبيرا ولم تقتطع لنفسها أيضا مساحة في التاريخ واكتفت بأن تبقى خلف الستار كزوجة للرئيس فقط، قبل أن تقرر إزالة هذا الستار وتكشف عن أسرار مفجر الثورة الكبرى في النصف الأخير من القرن العشرين، وتكتب مذكراتها وتروي لنا الأحداث التي مرت بها مصر منذ حرب فلسطين وحتى رحيل عبد الناصر في 28 سبتمبر 1970. مذكرات تسرد محطات تاريخية ظلت محاطة بهالة من الغموض لتضيف جديدا إلى ما استقر في الذاكرة العربية والمصرية من أحداث اكتسبت صيغة اليقين والحقيقة التاريخية.. مذكرات تكشف لنا المشهد الأول والأخير في حياة الزعيم جمال عبد الناصر وتضفي عليه دراما تاريخية لقصة المشروب الأخير، الذي تناوله ومن الذي صنعه ومن قدمه له وهو على فراش الموت.. إنها مذكرات تحية عبد الناصر...» اهتزت مشاعري وأنا أشاهد على إحدى القنوات الفضائية جمعا من الشباب اللبناني القومي وهم يطوفون بالشموع حول صورة جمال عبد الناصر القائمة في ميدان باسمه وسط بيروت بعد إعلان الانفصال الوحدوي مع سوريا، كانت الصورة مؤلمة جداً بالنسبة إليّ ولعبد الناصر الذي طالما عشق لبنان وشعبها وحافظ على كيانها موحّدة بعيدا عن أي انقسامات داخلية... علاقة حميمية كانت العلاقة التي تربط عبد الناصر باللبنانيين قوية وحميمية للغاية استمدت ذاتها من وضع لبنان الخاص والمشاعر القومية للبنانيين، التي عمد عبد الناصر إلى احترامها وتقديرها بعد إعلان الجمهورية العربية المتحدة نتيجة للمواقف اللبنانية المؤيدة لمثل هذه الوحدة التي عبّرت عنها الوفود اللبنانية الزائرة إلى دمشقوالقاهرة، والتي التزمت بالحضور دائما وأبدا حتى في احتفالات الوحدة السنوية، يذهبون خصيصا لرؤيته... ينتظرون وصوله لساعات وساعات حتى خيّل للجميع بأن لبنان كانت تنتقل إلى سوريا في تلك الأيام، إعجاب متبادل من عبد الناصر نفسه، وهذا ما كنت أكتشفه على الدوام حين مساعدتي له في إعداد خُطبِه التي اكتشفت منها إعجابه الشديد بلبنان وشعبها، فقد كانت كلمات تلك الرسائل تمتلئ بمشاعر الحماس والحب، ففي إحدى خطبه التي وجّهها إلى وفد المحامين اللبنانيين أثناء أحد احتفالات عيد الوحدة، وتحديداً بتاريخ الأول من مارس 1958 قال جمال: «لقد أتاحت لي هذه الأيام القليلة أن أشاهد لأول مرة لبنان على حقيقته، إنني لم أزر لبنان من قبل لكنني أشعر الآن بأنني بين شعبه وعلى أرضه نتيجة للقائي بإخوتي الذين وفدوا من لبنان، إنني أرى فيكم الحب والمحبة التي تربط القلوب، إنني أرى التضامن والنفوس الطاهرة في كل وجه من وجوه إخوتي في لبنان... وليعلم الجميع بأننا سنكون معكم في خندق النضال والثورة حتى تتحرّر أراضينا المغتصبة ونعيد للشعوب العربية حقوقها الكاملة دون أي انتقاص منها....». يروي محمود الجيار (جي) على لسان سامي شرف قائلا: «كان أول تعاط لجمال عبد الناصر مع الملف اللبناني قد بدأ في ماي (أيار) من العام 1958 في عهد الرئيس كميل شمعون الذي رفع شكوى إلى مجلس الأمن يتهم فيها الجمهوية العربية المتحدة بقيادة عبد الناصر بالتدخل في الشؤون اللبنانية وتهريب أسلحة عبر سوريا، حينها أرسل جمال عبد الناصر سامي شرف (مدير مكتب رئيس الجمهورية للمعلومات ووزير شؤون رئاسة الجمهورية) لمؤازرة سفير مصر في الأممالمتحدة عمر لطفي لتفنيد تلك الادعاءات التي لم يكن لها أي موضع من الصحة إطلاقا، وأذكر جيدا ما قاله جمال حينها لسامي شرف قبل سفره إلى مقر الأممالمتحدة: اسمع يا سامي أنت تعرف بأن هناك جلسة لمجلس الأمن تقتضي حضورك بصفتك مستشارا للوفد الرسمي لإطلاع الجميع على الأوضاع التي يجهلونها وتجري في المنطقة وليسوا في صورتها أبدا، وخصوصا ما يجري في لبنان التي تقدم رئيسها بشكوى ضدنا وسنواجهها بكل ما نملك من قوة لأن كل هذه افتراءات وادعاءات لا نقبل بها من شعب لبنان الأبي المساند لنا على الدوام، ولُنُعْلِمْ الجميع بأننا لا يوجد لدينا نية ولا سلطة للتدخل في السياسة الداخلية لشعب لبنان الشقيق الذي نكن له كل الاحترام والتقدير والذي سنقف معه متى احتاج إلينا وطلب مساعدتنا لمواجهة أي أخطار خارجية قد تهدّد أمنه واستقراره...». ويضيف (جي) قائلا: «كان تقديرنا في القاهرة أن مناقشة الشكوى ستُسلق سلقاً لمصلحة كميل شمعون والغرب كي يتدخل أكثر في لبنان، وأن هناك اتجاها باتخاذ قرار سريع ضد الجمهورية العربية المتحدة واتهامها بتهريب أسلحة إلى لبنان خاصة بعد أن وضعت جميع المستندات والوثائق في تصرف مجلس الأمن الذي لم يتخذ أي قرار يذكر بقدر ما بعث فقط بمراقبين دوليين للتحقق من صحة الدعوى، وهو إجراء اعتبره عبد الناصر بمثابة حلّ وسط وتسوية للملف خاصة بعد أن أصدر المراقبون تقريرا ينفي تهريب أي أسلحة عبر الحدود السورية اللبنانية، حينها فقط قال عبد الناصر : لقد ربحنا المعركة ضد كميل شمعون وليس ضد الشعب اللبناني الذي نحن جديرون بالمحافظة عليه، وليعلم المناهضون لنا بأن مصر لا تريد ابتلاع لبنان وإذلاله واحتلاله كما يروج الكثيرون بقدر ما تريد الوقوف إلى جانبه والحفاظ على مقوماته وحقوق شعبه..». شهاب... وأزمة 1958 مع بدايات العام 1952 برزت معارضة لبنانية قوية أخذت تطالب الرئيس بشارة الخوري بالاستقالة بعد أن انتخب لولاية ثانية، وفضّل فؤاد شهاب باعتباره قائدا للجيش الحياد التام وعدم توريط الجيش اللبناني في أي مواجهات سياسية والتدخل لصالح أو ضد أي من الأطراف المتنازعة حتى تم إجبار الخوري على الاستقالة وتعيين شهاب نفسه رئيسا لحكومة انتقالية مهمتها الأولى والأخيرة تأمين وتنظيم انتخابات رئاسية جديدة انتخب لها وبعد أربعة أيام فقط الرئيس كميل شمعون رغم معارضة الكثيرين لرئاسته نتيجة سياساته المؤيدة للغرب والمناهضة للجمهورية العربية المتحدة التي يترأسها عبد الناصر، وهي سياسات وضعت لبنان في خانة أزمة 1958 التي غزت معها القوات الأمريكية لبنان بحجة الحفاظ على الأمن والاستقرار وعدم انجراف البلاد في الحرب الأهلية الطائفية التي كان سببها المباشر كميل شمعون نفسه نتيجة وقوفه إلى جانب الغرب ضد عبد الناصر وتبريره للحرب التي شنت ضده بعد تأميم قناة السويس، وهي سياسات أطاحت بشمعون سريعا في العام 1958 وجيء بالحليف الناصري فؤاد شهاب نفسه الذي سرعان ما فاز برئاسة الجمهورية اللبنانية في الثالث والعشرين من سبتمبر 1958 نظير نزاهته واستقامته حتى انتخبه البرلمان اللبناني لولاية رئاسية مدتها ست سنوات...