تزامن حلول شهر رمضان لهذا العام مع خبر سار، لم يطرق مسامع المسلمين منذ سنوات، هو التراجع الذي سجلته نسب التحرشات الإسلاموفوبية التي عهد المسلمون في السنوات الماضية التعايش معها، إما عبر تحقيقات إعلامية مغرضة أو موجهة، وإما من خلال تفجير قضايا تهم طقوس وعادات المسلمين. وحسب التقديرات الأولية يمكن ملاحظة انخفاض للأعمال ذات الصبغة الإسلاموفوبية خلال الموسم الأول من عام 2012، بمعنى أنه تم إحصاء 150 عملا إسلاموفوبيا مقابل 185 في السنة الماضية خلال نفس الفترة. وثمة من يعزو هذا الانخفاض إلى انتخاب فرانسوا هولاند، الذي ساهم مجيئه إلى السلطة في انحسار الافكار المعادية للمسلمين. وإن كان من الصعب التأكد من الرابط بين الإثنين فإن جميع الأطراف التي تتابع الشأن الإسلامي بفرنسا تدعو إلى اليقظة وعدم التسرع بالقول أن الإسلاموفوبيا انسحبت كلية من المشهد. المهم أن نسخة رمضان لهذا العام بدأت في ظروف جوية واقتصادية «مريحة». على مستوى الطقس، فدرجات الحرارة «إنسانية» مقارنة ب«العافية» التي يعاني من لهيبها المسلمون في الضفة الجنوبية والتي قارب سعيرها الخمسين درجة ! اقتصاديا، توفر الأسواق بوفرة كل المنتوجات التي يشتهيها الصائم: حلويات، فواكه إكزوتيكية. لكن بمنأى عن البعد الاستهلاكي، يطرح الدور الحيوي لسوق رمضان في المنظومة الاقتصادية الفرنسية. ما هي إضافات وإسهامات هذا السوق في الاقتصاد الفرنسي؟ جاء الجواب في الدراسة التي أعدها مكتب سوليس ونشرت يوم 12 يوليوز الماضي، والتي أظهرت أن مسلمي فرنسا يصرفون خلال شهر رمضان 350 مليون أورو على مصاريف التغذية. هكذا ترتفع مصروفات عائلة مسلمة واحدة بنسبة 30% . وتهم المصاريف بشكل أساسي شراء اللحم، المنتوجات الحليبية، المنتوجات الطرية والمشروبات...وبما أن رمضان أخذ مكانه اللائق في المتاجر الكبرى ( كارفور، أوشان، لوكلير، كازينو الخ...)، فليس ذلك حبا في الإسلام بل حبا في جيوب المسلمين ! هكذا تحول رمضان إلى «بيزنيس» مربح يستفيد منه الاقتصاد الفرنسي بسخاء. صراع المسجد والمجلس إن كان المسلم العادي يصوم رمضان ويمارس إسلامه بطريقة هادئة وعادية، فإن القائمين على الشأن الإسلامي، وهم مسلمون يعملون بالسياسة، يطبخون فيما بينهم صحونا تفتقد إلى أي طعم. إذ طفت على السطح من جديد وبهذه المناسبة الخلافات التقليدية بين أصحاب المجلس وأصحاب المسجد. الفريق الذي يسير المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية والفريق التابع للمسجد الكبير لباريس. لم يخفف ولا أوقف تعيين وزير داخلية جديد، الذي هو في نفس الأثناء، وزيرا للأوقاف، من حدة المجابهة بين الطرفين. هكذا أعلن المسجد الكبير لباريس سحب عضويته من المجلس التمثيلي للديانة الإسلامية، وهي الهيئة التمثيلية لمسلمي فرنسا. ولتبرير انسحابه ذكر البيان الصادر عن المسجد بوجود «اختلالات خطيرة» و«حكامة استبدادية». وأوضح دليل بوبكر، عميد المسجد أن ممثليه ينسحبان من هذا الهيئة التي تتكون من 15 عضوا. ويأتي هذه الانسحاب ليترجم التصدع الذي يعرفه المجلس الذي يعيش منذ ديسمبر الماضي مسلسل إصلاح لم يتسن له أن يتحقق بعد. وقد سبق لمانويل فالس أن ندد الأسبوع الماضي ب«الانقسامات، الأنانيات، والمنافسة التي لا يمكنها تأجيل إلى وقت لاحق الحوار الضروري الذي يجب فتحه عن المواضيع الدينية». ولا يوضح البيان الصادر عن المسجد الكبير إن كان دليل بوبكر سيقدم استقالته من منصبه كنائب للرئاسة، مع العلم أنه كان أول رئيس للمجلس. يتألف المجلس من عدة فيدراليات بحساسيات مختلفة بعضها مقرب من الجزائر مثل المسجد الكبير، والبعض الآخر على علاقة بالمغرب مثل تجمع مسلمي فرنسا. هذا الصراع على النفوذ يجد ترجمته أيضا في سياسة بناء المساجد التي يخوضها وبشكل خاص الجزائريون لمواجهة المغاربة. تضاف إلى حرب المساجد بين البلدين حرب الأئمة. فقد أرسلت الجزائر إلى فرنسا عددا كبيرا من الأئمة خلال شهر رمضان وذلك لتلقين دروس وإلقاء خطب في مساجد فرنسا التابعة للمسجد الكبير. هذه المساجد التي يسيرها الجزائريون تفلت من مراقبة المجلس الفرنسي التمثيلي للديانة الإسلامية الذي يرأسه المغربي محمد الموساوي منذ 2008. وسبق لوزير الشؤون الدينية عبد الله غلام الله أن أعلن بأن بلاده سترسل ب120 إماما إلى فرنسا لوعظ وإرشاد المسلمين. وقد فسرت بعض وسائل الإعلام الفرنسية بأن إقدام الجزائر على هذه الخطوة يعتبر إعلان حرب على الأئمة الذين يرسلهم المغرب. وقد سبق للمغرب أن أرسل العام الماضي 180 إماما مقابل 76 بالنسبة للجزائر. أحد الرهانات التي يتسارع في شأنها تهم المسلمين الأفارقة مع العمل على تمرير إسلام وسطي يتعارض مع الافكار المتطرفة التي يمكن أن يميل إليها بعض من هؤلاء المسلمين، الذين يمكنهم تدعيم صفوف منظمة القاعدة بالمغرب الإسلامي. موائد الإفطار من أجل إنشاء لوبيات سياسية بالتوازي مع هذه الأزمة بدأت حملة الإغراء من خلال موائد الإفطار للوزراء ولشخصيات وازنة في حكومة جان-مارك آيرو. وقد نسي بعض القائمين على الشأن الإسلامي، أمثال دليل بوبكر ومحمد الموساوي، بسرعة تورطهم الحميمي مع نيكولا ساركوزي الرئيس والمرشح، الذي صوتوا لصالحه. واليوم يسعون إلى كسب ود الاشتراكيين وبالأخص وزير الداخلية الجديد، مانويل فالس. وتأتي سياسة موائد الإفطار كأداة للتقرب من المسؤولين السياسيين للدعاية لأطروحاتهم. وقد دشن عميد المسجد الكبير، دليل بوبكر هذه الموائد يوم السبت الماضي، ثاني رمضان باستقباله لحفل إفطار مانويل فالس وزير الداخلية. وقد حضر الإفطار ممثلو بعض الفدراليات المنتمية إلى حساسية سياسية معارضة للمغربي محمد الموساوي الذي لم توجه له الدعوة. واعتبر جل المراقبين أن العميد أنجز ضربة صائبة بهذا الإفطار في الوقت الذي يحتدم فيه الصراع بين الفدراليات من أجل الاستحواذ على المجلس التمثيلي للديانة الإسلامية. وتسعى الجزائر تماشيا مع سياستها الجديدة إلى بسط هيمنتها على الإسلام بفرنسا. وتنظر إلى مجئ الاشتراكيين إلى السلطة كفرصة ثمينة للتموقع في المشهد الديني والسياسي. لاحظت الجزائر أن الفرنسيين من المسلمين، خصوصا من الأجيال الجديدة، شديدو التعلق بالإسلام وبوطنهم. لذا تعمل الجزائر على تطبيق سياسة إعادة تأهيل هؤلاء المواطنين الذين كانوا إلى وقت قريب منفصلين عن بلدهم وعن دينهم. بسط الهيمنة معناه تمرير لخطاب رسمي. ويمثل دليل بوبكر قناته الشرعية. وسياسة موائد الإفطار ليست موجهة لاستقطاب وزير الداخلية وحسب، بل تهدف إلى استقطاب مسؤولين سياسيين، أو عمدات المدن الكبرى الآخرين وذلك بهدف خلق لوبي يساند هذه الأطروحة أو تلك. في العقد الأخير، وبالأخص منذ هجمات الحادي عشر من شتنبر، أصبحت حفلات الإفطار التي تشارك فيها شخصيات سياسية من الطقوس التي يبتغى منها خلق انطباع بالتعايش أو العيش المشترك. أهمية، بل خطورة إفطار هذه السنة هو الوزن الانتخابي والاقتصادي الذي أصبحت تمثله الجالية الإسلامية بفرنسا. قبل الاستحقاق الرئاسي الأخير كان ينظر للمسلمين كأشخاص مشغولين ببطونهم، أما اليوم فالعديد من قيادات الأحزاب السياسية في اليمين واليسار والوسط، أخذت على محمل الجد الدور الانتخابي الوازن للجالية الإسلامية بفرنسا. لسنا بعد بنفس التعامل الذي تتصرف فيه الطبقة السياسية مع اليهود خلال حفل العشاء الذي ينظمه المجلس الفرنسي للديانة اليهودية والذي يتزاحم فيه أقطاب السلطة بفرنسا. لكن وضع الجالية المسلمة في تحسن وجلسات الإفطار أصبحت تقليدا يشارك فيه النائب البرلماني، العمدة، الأسقف الخ... كما أنه مناسبة لتمرير رسائل سياسية لا تخدم بالضرورة قضية الإسلام والمسلمين بشكل عام، بل تخدم المصلحة الشخصية أو الحصول على مساعدات مادية. وقد احتضنت بعض الولايات تقليد الإفطار لدعوة الشخصيات والوجهاء من المسلمين لحفل إفطار. وتعتبر ولاية باريس بطلة هذا التقليد. فقد اعتاد عمدة باريس، بيرتراند دولانوييه، وهو من أصول تونسية، على إحياء حفل إفطار بالصالونات الفاخرة للولاية بتقديم وجبات مشكلة على الطريقة التونسية أو الجزائرية ونادرا على الطريقة المغربية. بعد الويلات، أنعشت وزارة الخارجية بدورها هذا التقليد الذي استحدثه بيرنار كوشنير، وزير الشؤون الخارجية الأسبق في عهد ساركوزي. فقد نظم لوران فابيوس يوم الإثنين 23 يوليوز إفطارا حضره سفراء الدول الإسلامية والمسؤولون الإسلاميون. لكن يبقى الإفطار الذي يتزاحم عليه الجميع هو الذي تنظمه سفارة الولاياتالمتحدةبفرنسا. وهذا التقليد معمول به منذ سنوات. لا يستثني الأمريكيون من الدعوة أي طرف أو فاعل مسلم له حضوره داخل المشهد الثقافي أو الفكري: مثقفين، مسؤولين عن جمعيات، مقاولين.. غير أن المجلس الفرنسي رفض الدخول في مزايدات الموائد مع مستهل رمضان مفضلا تنظيم حفل عشاء بعد انتهاء الشهر الحرام. المهم أن الإسلام المؤسساتي بفرنسا ليس مهيئا بعد لتوحيد كلمة المسلمين ولم شملهم خصوصا بعد الإنجازات التي تمت بسقوط أنظمة الاستبداد في أكثر من بلد عربي وانقشاع الأفق بعد رحيل ساركوزي. الصراع على أشده لأن الرهانات سياسية واقتصادية: تهم من جهة تمكين المؤسسات الدينية من مراقبة المسلمين خصوصا وأن أغلبهم صوت أو مستعد للتصويت لصالح الحركات الإسلامية، مثل ما وقع في حالة تونس والمغرب. أما الجزائر فهي خائفة من أن يتأثر المسلمون الجزائريون ب«إخوانهم» المغاربة أو التونسيين وفي أسوأ الأحوال ب«إخوانهم» القاعديين مثل ما حدث في حالة محمد مراح. لذا فإن بسط هيمنتها على المجلس التمثيلي بسحب السجاد من تحت أقدام المغاربة علاوة على تحكمهم في المسجد الكبير لباريس، يوفر للجزائر نافذة مراقبة على مواطنيها لكي لا يتحولوا إلى قنابل دعائية، خصوصا وأن النظام له تجربة عسيرة مع الإرهاب ومع الإرهابيين.