كنت أظنه بديهيا، أن يعرف الساسة العلاقة بين تشدد قادتهم في المطالبة بحقوقهم وبين ثقتهم في أنفسهم، ثم أن يعرفوا العلاقة بين ثقة الناس في أنفسهم وبين انتصارهم. إن تشدد القادة غير الواقعي يخلق الحشود التي تجعله واقعيا، لأنه يرسل إلى الناس رسالة مفادها أن قادتكم يثقون بكم ويعتمدون عليكم ويعرفون منكم من القوة ما قد لا تعرفون من أنفسكم، فينزلون إلى الشوارع، ثم حين يرى بعضهم بعضا تتعزز تلك الثقة فيكثر الجمع، فيعجز المسلح، جنديا كان أو شرطيا، عن إخافتهم، فيخاف هو منهم، فيفرضون هم عليه إرادتهم. وما كانت المظاهرات الصغيرة التي يتجمع فيها خمسون إنسانا على سلم نقابة الصحافيين إلا نداء من بعض السياسيين وأصحاب الرأي والشجاعة للناس، أنْ ثقوا في أنفسكم وانزلوا. أما إذا تهاون القادة، وجعلوا يتنازلون، فإنهم عمليا يرسلون إلى الناس رسالة مفادها أنهم يظنون فيهم الضعف، وأنهم يتجنبون الصدام لاعتقادهم أن الناس أعجز من أن يصادموا. إن ظهور الضعف في القادة ينتشر كالعدوى يأسا بين الناس فيلزمون بيوتهم، فيزيد بقاؤهم في البيوت القائد ضعفا على ضعف، وهلم جرا. إنك حين تكون شخصا اعتباريا مكونا من ثمانين مليون نفس، فقوتك وضعفك ليسا إلا حالتين في خيالك، ووظيفة قادتك أن يغلبوا ثقتك بنفسك على شكك فيها، فإذا ظننت أنك قوي أصبحت بالفعل قويا، وإن ظننت أنك ضعيف أصبحت بالفعل ضعيفا، «وبقدر إيمانك يكون لك». رأى أهل سيدي بوزيد أن البوعزيزي لم يخف من الموت. ولأنه لم يكن إلا واحدا منهم يشبههم في كل شيء، اعتقدوا أن فيهم من القوة ما فيه، فكسروا حاجز الخوف وتظاهروا. ولأن أهل سيدى بوزيد يشبهون من حولهم في كل شيء، وثق هؤلاء الجيران في أنفسهم ففعلوا فعل أهل سيدي بوزيد، وهكذا حتى بلغت الثورة وزارة الداخلية في تونس العاصمة وقصر قرطاج. فلما رأى المصريون أن التونسيين الذين يشبهونهم في كل شيء قدروا على إطاحة رئيسهم، وثقوا في أنهم هم أيضا قادرون على ذلك، فأصبحوا فورا قادرين عليه فعلا، إذ إنه لم يكن بينهم وبين النصر إلا أن يؤمنوا به، كما قال المسيح عليه السلام للحواري أن لا حاجز بينه وبين ارتكاب المعجزة والسير على الماء إلا أن يؤمن. أكتب هذا اليوم لأن الناس ارتبكوا في رد فعلهم على قرار رئيس الجمهورية المنتخب إعادة مجلس الشعب، ثم تراجعه عن ذلك وإعلانه احترام أحكام القضاء. فمن الناس من قال إن سبب تراجع الرئيس هو قلة الدعم الشعبي له، واختلاف قادة القوى العلمانية معه وافتراق بعضها عنه وتركه له يواجه العسكر وحده. وأنا أخالف هذا الرأي، لظني أن سبب التردد هو أن الرسالة بالمواجهة الشاملة لم تصل إلى الناس، بل وقفنا على حد وسط بين الثورة والإصلاح، بين المهادنة والمواجهة، محاولين أن نرضى طرفين متضادين فلم نرض أيهما. ولو أن الرئيس ألغى الإعلان الدستوري المكمل، بل مارس صلاحيته كقائد أعلى للقوات المسلحة يعين من قادتها من يشاء ويعفي من يشاء، ودعا إلى ذلك عبر شاشات التلفزيون ونزل بنفسه إلى الميدان، فإنه يرسل إلى الناس رسالة أن الشجاعة ممكنة وأن النصر ممكن. أما السياسيون الذين خالفوه بحجة احترام قضاة عينهم حسني مبارك، واحترام قوانين أصدرتها برلماناته التي لم يكن أي منها منتخبا انتخابا نزيها، فإنهم لن يخذلوا إلا أنفسهم بخذلانه عندئذ، إن الناس لن يتبعوا من يعدهم بالضعف ويوحي لهم بالهزيمة، بدلا من الذي يعدهم بقوتهم ويريهم أن النصر ممكن. ضحك بعض الأصدقاء الكبار مِمَّن أجلُّ وأحترم وأحب، حين حدثته هذا الحديث، وقال لي إنك تتكلم عن كون أناس يملكون مدافع ودبابات وقوانين، أَوَلم يكونوا يملكون دبابات ومدافع وقوانين حين ثار الناس عليهم وأطاحوا بقائدهم الأعلى الذي حاربوا تحت رايته العراق وسالموا إسرائيل ثلاثين سنة؟ وقال آخرون إنه لا إجماع في مصر اليوم على إلغاء الإعلان الدستوري المكمل وإنهاء سلطة المجلس العسكري على الدولة، والرد عليهم أنْ بلى، ثمة إجماع في مصر على ذلك، إنما سبب الافتراق خوف بعض السياسيين من استحواذ حزب الحرية والعدالة وجماعة الإخوان المسلمين على السلطة، وهو سبب واهٍ، في رأيي، لأن الديمقراطية تقضى بقبول استحواذ من ينتخبه الناس على السلطة، كل السلطة، إلى حين الانتخابات اللاحقة. وهذا السبب الواهي يؤثر، على وهيه، في أفعال كثير من هؤلاء السياسيين الخائفين من الإسلاميين أو المشتاقين إلى السلطة يحصلون عليها بلا أغلبية. وأرى أن إشراكهم في السلطة خير من إشراك العسكري فيها، ولذلك فإن الحكمة تقتضي أن تشكل وزارة سياسية تحوي أشهر الأسماء من بين القوى المدنية وأكثرها تأثيرا في أتباعها، لتكون ثمة قاعدة وحدة وطنية يمكن بها للرئيس المنتخب ولمجلس الشعب المنتخب اللذين يمثلان الشعب المصري برمته أن ينتزعا السلطة الكاملة من يد من عينهم مبارك، سواء لبس هؤلاء المعينون سلاحا أو وشاحا. خلاصة القول، إن الذي قلل الحشود وفرق الناس طوال العام الماضى وحتى الأسبوع الأخير، لم يكن إلا رغبة أكبر فصائل العمل الوطنى فى المساومة بدلا من المقاومة، وكان هذا عمليا بمثابة تسريح القائد لجنده، وتفريقه لناسه، وهدمه لمعنوياتهم وهو في وسط المعركة. لم تكن مشكلة خصوم الإسلاميين معهم أنهم إسلاميون، بل كانت مشكلتهم معهم أنهم هادنوا وساوموا وخذلوا حين كان يجب التشدد. تهاونوا فى الدم وتشددوا فى القماش. واليوم إن أراد المنتخبون أن يحكموا فليراهنوا على الناس وليتشددوا فى الدم، فى حكم البلاد، وليطلبوا كل شيء مرة واحدة، أما هذا التدرج الذي يجرح التنين ولا يقتله فلن يفعل إلا أن يربك ثقة الناس في قادتهم، ثم يربك ثقتهم في أنفسهم ويبقيهم في بيوتهم، فإن بقوا في بيوتهم حكم السلاحُ البلدَ لمدة جيل كامل على الأقل. كذلك، فإن زيارة المملكة العربية السعودية، ثم زيارة وزيرة الخارجية الأمريكية وغيرها من علامات المهادنة مع حلفاء حسني مبارك الخارجيين يزيد من يأس الناس، لأنه يأتي بعد مهادنة حلفاء حسني مبارك الداخليين. يكاد لا يخيفني شيء في الشأن المصري، إلا أن يقر في خيال المصريين أنهم ضعفاء، وأنهم حتى حين نزل ملايينهم إلى الشوارع لم يحققوا ما أرادوه. إن هذا الانهيار في معنويات الناس سيظهر في كل شيء، من تخاذل السياسة الخارجية أمام إسرائيل وأمريكا يأسا من النصر، إلى عودة التحرش بالنساء في الشارع يأسا من رجولة المارة وشهامتهم، ومن قبول شروط البنك الدولي إلى قبول الموظفين الرشى والعطايا في أجهزة الدولة وإشارات المرور. ومن أحب أن ينظر إلى من سبقه كمثال، فلينظر إلى ما جرى من فساد في الضفة الغربية حين سالمت منظمة التحرير إسرائيل بعد الانتفاضة، وكيف أصبح المقاوم متهما والسارق مسؤولا محترما. أيها الناس، لست إلا ولدا يكتب مقالا عسى أن يُرفع هذا الكلام إلى مقامكم وعتبتكم الشريفة في ميادين ومصر وشوارعها: أنتم قادرون، وإن قال لكم قادتكم وعسكركم ومثقفوكم والأمريكان والإسرائيليون غير ذلك، صدقوا أقدامكم التي مشت بكم من بيوتكم إلى التاريخ، صدقوا العرق في قمصانكم وأحذيتكم المهترئة التي أربكت الدنيا، ولا تصدقوا الردهة والبهو والوزارة والحزب والوشاح والسلاح والوثيقة والبيان.