إنهم يخيرون الثورة المصرية بين الهزيمة والاحتواء، عمر سليمان يهزمها وخيرت الشاطر يحتويها. والقمع والاحتواء منهجان استعماريان معروفان. وكان جورج بوش الجمهوري يعتمد المنهج الأول، وهو الاعتماد على القوة العسكرية والقمع، ثم فشل، فلجأ باراك أوباما الديمقراطي بعده إلى سياسة الاحتواء، وسياسة الاحتواء تعني أن يعقد الغازي المستعمر اتفاقا مع أكثر الحركات الوطنية شرعية وقوة، يمنحها بمقتضاه قدرا من السلطة مقابل التزامها بالحفاظ على مصالحه، يعني بدلا من أن يحتلنا الغازي، نحتل له أنفسنا بأنفسنا. وعادة ما تلجأ إلى هذا الحل القوى الاستعمارية حين تكون ضعيفة أو مأزومة، مثل بريطانيا مع الوفد قبل الحرب العالمية الثانية وأثناءها، إسرائيل مع حركة فتح بعد الانتفاضة الفلسطينية الأولى، والولاياتالمتحدة مع كبريات فصائل المعارضة العراقية، إبان الحرب على العراق. والجدير بالملاحظة أن الحركات الوطنية التي يلجأ إليها الاستعمار ليحتوي بها الثورة أو المقاومة ضده، إنما تكون قد بنت شرعيتها أساسا على مقاومته، لأن مقاومتها السابقة هي التي تعطي قيمة لتعاونها اللاحق. وتصوري أن الولاياتالمتحدة فرضت على المجلس العسكري تحالفه مع القيادة الحالية لجماعة الإخوان المسلمين. أدركت واشنطن ضعف العسكر منذ عجزوا عن فرض حظر التجول يوم الثامن والعشرين من يناير عام ألفين وأحد عشر، وأدركت أن العسكر لن يستطيعوا الحكم إذا قرر أكبر تنظيم في البلاد أن يناوئهم بينما الناس لا يزالون في الشوارع، فكان لا بد لهم من فرض تحالف بين قيادة الإخوان والعسكر، وإن كان مؤقتا. وهو تحالف يضعف الطرفين ويفيد الولاياتالمتحدة، أما العسكر فيضعفهم أن تسيطر الجماعة على جزء من الدولة، لأن كل ما تحصل عليه الجماعة من سلطة هو مقتطع منهم، والجماعة يضعفها انعزالها عن بقية قوى المعارضة المصرية وظهورها بمظهر من يبيع الثورة بالثمن البخس. وبعد مرور سنة، أثبت العسكر أنهم فاشلون تماماً في وقف الاحتجاجات في البلاد، وبدا أنهم على شفا الانهيار مع كل حادثة كبيرة، أما القادة الحاليون للإخوان وحزب النور فأثبتوا أنهم ناجحون تماما في إنقاذ العسكر كلما أوشكوا على السقوط، وأنهم هم صمام الاستقرار في البلاد. لذلك، توصلت بعض الدوائر السياسية في واشنطن إلى استنتاج مفاده أن استقرار مصر منوط بحكم الإسلاميين، فضغطوا على العسكر لكي لا يؤجلوا الانتخابات البرلمانية أيام أحداث محمد محمود، وضغطوا عليهم مرة أخرى لإعادة تأهيل الشاطر ليدخل معترك الحياة السياسية الرسمية. وعزز هذا الاتجاه في واشنطن ما أبدته قيادات الإخوان من تفهم للمواقف الأمريكية في المنطقة، فالتزم وفدهم المرسل إلى العاصمة الأمريكية باستمرار اتفاقية السلام مع إسرائيل، وزار رئيس البرلمان الإخواني ملك البحرين معلنا بوضوح وقوف تنظيمه مع السعودية وحلفائها ضد إيرانوحلفائها، ولو مرحليا؛ وحين قتلت إسرائيل جنودا مصريين امتنع الإخوان عن الحشد. أضف إلى مواقف الإخوان وحزب النور هذه، سببا آخر دفع الأمريكيين إلى انتهاج سياسة حسن تفاهم معهم، وهو ضعف أمريكا العام في الشرق الأوسط، وعجزها عن انتهاج سياسة مواجهة مع الإسلاميين. إن أمريكا، المرهقة من أفغانستان والعراق وأزمتها المالية وانتخاباتها، عجزت عن التدخل لحماية مبارك، ثم امتنعت عن إطلاق يد العسكر القامعة ضد الإسلاميين في مصر لأنها تعلم عجزها عن مساندتهم، وأن من يطلق النار على الإسلاميين في مصر سيهزمه الإسلاميون حتما. والعاجز يرضى بالموجود، فإن كان الموجود راضيا هو الآخر بالعاجز فقد تم العقد ووضع المنديل وأُعطيت العروس. في المقابل، فإن العسكر لم يكونوا سعداء بهذا الزواج الجديد بين مكتب الإرشاد والولاياتالمتحدة، لأنه يعني طلاقا بين واشنطن وبينهم. وهنا التقت مصالح العسكر مع مصالح اللوبي الصهيوني في واشنطن. فإن كان عجز واشنطن يدفعها إلى القبول باتفاق مع الإخوان، فإن تل أبيب غير مضطرة إلى قبول ما قبلت به واشنطن. وإسرائيل والمحافظون الأمريكيون لم ينسوا كيف انتهى الحلف الأمريكي الإسلامي المنعقد ضد الاتحاد السوفياتي في السبعينيات والثمانينيات، حيث رجع الإسلاميون إلى عدائهم الأصيل مع الولاياتالمتحدة؛ بل حتى في الماضي القريب، حين عجز الأمريكيون عن حكم العراق حكما مباشرا واضطروا إلى التحالف مع بعض القوى الإسلامية فيه، وهو الحل الذي سمي في واشنطن بالسيستانيزم، نسبة إلى آية الله علي السيستاني، انتهى هذا الحلف بعودة القوى الإسلامية إلى عدائها الأصيل مع الولاياتالمتحدة، وحالفت طهران بدلا من واشنطن. أقول إن إسرائيل، ومعها الجمهوريون الأمريكيون، ما يزالون من أنصار سياسة المواجهة المباشرة بين الأمريكيين والمسلمين، ويرفضون سياسة الاحتواء، ويرون أن أي حلف أمريكي إسلامي آيل للانحلال، وأن خيار أوباما احتواء الإسلاميين والتفاهم مع المعتدلين منهم يعرض أمن إسرائيل للخطر مهما أعطوه من ضمانات. يعني، مهما أقسم السيد خيرت الشاطر على أنه سيبقي على اتفاقية السلام، فإن إسرائيل ستظل تعتبره خطرا عليها، وإن اطمأنت إليه فلن تطمئن إلى قواعده وناسه أبدا؛ وهي تعتبر أن احتمال خروجه غدا من أي حلف أمريكي يدخله اليوم يبقى واردا بسبب ضغط هؤلاء القواعد. وإن كان خروج رئيس إسلامي مصري عن حلفه مع أمريكا يهدد مصالح أمريكا، فإنه يهدد وجود إسرائيل لا مصالحها فقط، ومصر أكبر من أن يطمئن إليها أعداؤها مهما طمأنتهم؛ لذلك ترفض إسرائيل ما تقبله أمريكا، وتعتبر الشاطر خطرا عليها مهما قال أو فعل. هنا، إذن، يلتقي العسكر مع الإسرائيليين واللوبي اليهودي، والمحافظين الأمريكيين. وبينما يجهد وفد الإخوان المسلمين في واشنطن لإقناعها بمزايا الحلف الأمريكي الإخواني، ويقدم إليها الضمانات الخاصة بأمن إسرائيل ويعدها بمراعاة مصالحها في الانفتاح الاقتصادي، وقناة السويس والبترول والغاز والقمح والموانئ والمطارات والطرق، يجهد العسكر في إقناع واشنطن بخطر الإسلاميين وأن كل ما يعدونها به مؤقت وغير مضمون، كأن العسكر والإخوان في مزاد، كأنهما عز الدين أيبك وفارس الدين أقطاي يتنافسان على ود شجرة الدر الأمريكية. ولكي يكسب العسكر أعوانا وأنصارا يقنعون البيت الأبيض بوجهة نظرهم، لجؤوا إلى اللوبي اليهودي والحزب الجمهوري، وأتوا لهم بمرشح إسرائيل المفضل عمر سليمان. واللوبي اليهودي في أمريكا، كما تعلم، هو من أنجع وسائل الضغط والإقناع، وتزيد نجاعته في سنة الانتخابات الرئاسية الأمريكية، وهي على الأبواب في نونبر القادم. وهذان خياران أحلاهما مر، فخيار الشاطر هو حلف مع أمريكا، وإن كان مؤقتا، وخيار سليمان هو حلف مع إسرائيل؛ فإذا حكم الشاطر فسيبقي على اتفاقية السلام، وعلى تحالف مصري سعودي ضد إيران، وعلى تعاون أمني واستخباراتي واقتصادي مع الولاياتالمتحدة؛ وإن حكم سليمان فسيبقي على اتفاقية السلام، وعلى تحالف مصري سعودي ضد إيران، وعلى تعاون أمني واستخباراتي واقتصادي مع إسرائيل. ومن المعروف أن التزامات كهذه لن يقبل بها المصريون إلا إذا قمعوا، والسياسة الخارجية المتحالفة مع الولاياتالمتحدة تعني بالضرورة سياسة داخلية تعتمد على القمع والقهر، كما تستلزم سياسة اقتصادية تركب المستثمر الأجنبي على أكتاف العامل والفلاح والطالب العاطل عن العمل والزواج؛ فنحن بين موت مع إسرائيل وحلفائها من رجال المخابرات أو حياة كالموت مع أمريكا ومهادنيها من رجال الأعمال. وليس غريبا أن يظن العسكر وسليمان أن مُلك مصر أمر تقرره الولاياتالمتحدة، فعلى هذا تربوا من أربعين سنة، لكن المحزن والمؤلم حد الموت كمدا هو أن تعتبر القيادة الحالية للإخوان المسلمين أن ملك مصر يُطلب من قاعات الرخام في واشنطن لا من شوارع القاهرة وميادينها، ونحن مع ذلك نحسن فيهم الظن ونتمنى عليهم أن يعتمدوا علينا نحن لا على الأمريكيين سبيلا إلى حكم البلاد، فهذا تراثهم وهذه هي عقيدة قواعدهم وشبابهم التي بها وعليها ولها دخلوا السجون والمعتقلات لثمانين عاما. ثم إن هذا الاطمئنان إلى أن عرش مصر موجود في خزانة ما في واشنطن يوحي بأن ثمة نية لتزوير الانتخابات الرئاسية أو التلاعب بها. ونحن؟ أعني مجموع الناس الذين لا يريدون حلفا لا مع الولاياتالمتحدة ولا مع إسرائيل، ويريدون تفكيك ما يستتبعه حلف كهذا من سيطرة الأجهزة القمعية على الدولة وبيع خيراتها للعدو؟ ماذا نصنع؟ اجتهادي هو أن نتوحد ونتشدد، فلا سند لنا إلا الشارع، ونحن لن نضمن الشارع إلا بهذين، إن الوسطية والتفاوض والروقان هي بضاعة القيادة الحالية للإخوان المسلمين ووفدهم الذي قابل جفري فيلتمان، مهندس أزمات المشرق، في واشنطن. لقد اختار مكتب الإرشاد إقناع الأمريكان سبيلا للحكم، ولن نستطيع مباراته في ذلك، لأننا ببساطة لا نستطيع أن نقدم ما يقدمه هو من تنازلات، وإن قدمناها فسيبقى هو أقدر منا على تطبيقها، فإذا خيَّرْنا الناس بين متنازلين، فلماذا يخرجون إلى الشوارع؟ إن الناس لن يعرضوا نحورهم للرصاص من أجل رجل يفاوض أو يناور أو يحب السلامة، بل سيعرضون نفوسهم للخطر إن قدمنا إليهم بديلا يساوي تضحياتهم. إذا أردنا الناس في الشارع فلنعلن عداءنا الصريح للولايات المتحدة وأننا سنلغي اتفاقية السلام واتفاقية الغاز وعقود النفط والذهب وقناة السويس التي تنهب البلاد بمقتضاها، وسنعيد ثروات البلاد إليهم بلا مواربة ولا موازنات، فلأجل هذا، لا أقل منه، لقي الناس الرصاص بصدورهم ولأجله، لا أقل منه، قد يقبلون الخروج مرة أخرى. لنستعد إذن لثورة ثانية، فهذا صيف طويل، وإلا فهو الموت الأكيد، هذه المرة، على الميدان أن يمتلئ ثم عليه أن يتحرك، لأن جموده في مكانه سيؤدي إلى الحصار والاستنزاف. وهذه المرة، لا بد أن يكون للناس رئيس شعبي أو مجموعة من القادة المتحدين، لا ينتهون حتى يستقر في قصر القبة. إن الثورة لا تقوم لنقل السلطة من الرئيس إلى نائبه، ولا تقوم لتبقى الدولة على حلفها مع عدوها وعدائها مع شعبها. وأنا أدعو مرشحي الرئاسة الثوريين، ولا أنكر أن هواي مع أحدهم، أن يستعدوا لنضال طويل وألا يغريهم دعاة التوسط والمهادنة وألا يديروا حملاتهم بمنطق التسويق بل بالمنطق الذي عرفوه وهم شباب، منطق التنظيمات الشعبية والحشد، لأن الشواهد المتكررة الآن توحي باحتمال تزوير الصندوق، وعندها سيكون الشارع، لا الصندوق، طريق الرئاسة والخلاص. وختاما، أعلم بأن البعض سينبري دفاعا عن سليمان ومن كان مثله قائلا لي أنت فلسطيني فما شأنك بنا. نعم، أنا فلسطيني وفلسطينيتي «تاج راسي»، وأنا مصري ومصريتي «تاج راسي»، أنا بن دير غسانة من قضاء رام اللهوالقاهرة لي، وأنا بن القاهرة والقدس لي وفي فلسطين إسرائيليون ينفون انتمائي إليها، وفي مصر إسرائيليون من نوع آخر ينفون انتمائي إليها، معهم الورق فليطبعوا منه ما أرادوا، وليسنوا من القوانين ما شاؤوا، لن تقف ورقة بيننا وبين أرضنا كما لم تفلح دبابة ولا سلك شائك في منعنا، ولن يحكمنا سافك دمنا في البلدين، وقد شهدت الانتفاضة في شارع الإرسال في رام الله والناس يقفون للدبابات هاتفين «طاب الموت» وما شوارع القاهرة عن مثلها ببعيد.