سأجازف بالقول إن المجلس العسكري على وشك الخروج من السلطة لو لم يتخاذل السياسيون، وإنه لن يبقى في الحكم بعد اليوم إلا إذا أراد الآخرون إبقاءه. إن ميزان القوة المادي على الأرض اليوم مائل في اتجاه الناس ميلا عظيما. والقوة الحقة هي التي تفعل مفعولها قبل أن تمارس. لقد سقط مبارك قبل أن يدخل الناس عليه قصره لأنه كان يعلم علم اليقين بأنهم قادرون على دخول قصره، واليوم يعلم المجلس العسكري أن الناس قادرون على أن يملؤوا الشوارع والميادين فيستحيل عليه أن يحكم البلد؛ وهو يعلم بأنه لو بقى في الحكم فسيبقى عدد صغير من المتظاهرين يكدر عليه حياته، فإن فضهم بالعنف عاد إليه مئات الآلاف إلى الشوارع، وأنهم يزيدون مع كل عملية فض ومع كل طلقة خرطوش وقنبلة غاز، وهو يعلم أنهم ما عادوا يكتفون بالثبات في ميدان التحرير، بل يتحركون في مسيرات نحو مباني الدولة الحيوية، فهو إن واجههم زادت أعدادهم، وإن لم يواجههم زادت أعدادهم أيضا. أدرك الحاكمون أن أهل البلد يرفضونهم رفضا عاما، وهذه حال يستحيل معها أن يحكموا. إن المظاهرات الكبرى التي جرت في ذكرى الثورة الأولى بينت أن ما يسمى بحزب الكنبة محض خيال، وأن لكل معتصم في الشارع ألفا يساندونه في البيوت وسينجدونه لو تعرض للخطر، وأن الخطاب القائل إن الناس قد كرهوا الثورة وملوها ما هو إلا وسيلة من وسائل الحرب النفسية التي يشنها إعلام النظام عليها، وأن ثنائية الثوار والشعب غير قائمة، وأننا ما نزال أمام شعب ثائر لا شعب وثوار. والصراحة هي أن هذه الحقائق كانت واضحة منذ أحداث محمد محمود، حين اعتدت قوات الأمن والجيش على بضع عشرات من المصابين أمام مبنى المجمع فتداعت لهم البلاد كلها من البحر المتوسط حتى حدود السودان، ولم يعد الناس إلى بيوتهم إلا حين عجزت القوى السياسية عن تقديم قيادة ميدانية وبديل سياسي لهم، وبدأت الانتخابات فقرر الناس أن يختاروا مجلسا للشعب ينوب عنهم في المطالبة بحقوقهم. وما إن انتهت الانتخابات حتى عاد الناس إلى الشوارع، ولن تفلح انتخابات مجلس الشورى، التي لا يأبه لها أحد، في ردهم إلى بيوتهم هذه المرة. وعودة الناس إلى الشوارع ليست قدحا في مجلس الشعب بل هي تحصين له، فلو أنه اجتمع يوم الخامس والعشرين وأعلن خلع المجلس العسكري لما استطاع المجلس العسكري أن ينزل دبابة واحدة إلى الشوارع ولا أن يقبض على نائب واحد من بيته ولبقي الناس في الميادين حتى يتمكن مجلس الشعب من الحكم. وحتى هذه اللحظة، إذا أراد مجلس الشعب أن يخلع المجلس العسكري فإنه يستطيع، وإذا رد عليه المجلس العسكري بشر، أي بانقلاب عسكري، فما الناس عن الشوارع ببعيد. كذلك، فإن نزول الناس إلى الشوارع كان تذكيرا لمجلس الشعب بأنهم انتخبوه ليقول قولهم لا ليقولوا قوله، وأن مجلس الشعب إن أراد أن يبقى العسكر في أماكنهم فإن الناس سائرون إلى إسقاطهم شاء النواب أم أبوا. باختصار، هذه الأعداد الكبيرة تقدر أن تحمي مجلس الشعب من العسكر ولا يقدر مجلس الشعب أن يحمي العسكر منها. وكما فندت المظاهرات ثنائية الشعب والثوار وذكرت العالم بالبديهية التي كاد ينساها، وهي أن في مصر شعبا ثائرا، فقد فندت ثنائية أخرى تقابل ما بين شرعية الميدان وشرعية البرلمان. إن الملايين الذين ملؤوا مصر يوم الخامس والعشرين هم أكبر عينة ممكنة من الهيئة الناخبة، إن لم يكونوا هم الهيئة الناخبة كلها، كلهم ذهبوا إلى الانتخابات، وأكثرهم اختاروا الأحزاب الإسلامية التي نالت الأغلبية فيه. هذا يعني أن المواطن الذي صوت لحزب الحرية والعدالة هو نفسه الذي تظاهر لإنهاء حكم العسكر. إن الناس يدركون أن مصالح البلاد والعباد، بما في ذلك مصلحة الإخوان المسلمين، تكمن في الخلاص من الحكم العسكري، ولا يرون سببا لقبول بعض الأحزاب ببقاء العسكر أو لقبولهم بتقاسم السلطة مع العسكر، اللهم أن تظن الأحزاب بشعبها ضعفا، وتخاف إن هي اصطدمت بالعسكر أن يخذلها الناس، فنزل الناس بالملايين يقولون ها نحن وها هي قوتنا ولا داعي إلى الخوف، نحن نحميكم. وإن كان تقديري صحيحا، فإن مشكلة المتظاهرين مع أحزاب الأغلبية ليست في وصولها إلى السلطة، فإن أكثر هؤلاء المتظاهرين هم الذين انتخبوها، ووصولها إلى السلطة حقها المشروع الذي دفعت ثمنه دما من ثمانين سنة، ووصولها إلى السلطة مقلق لأمريكا وإسرائيل، وكل ما كان مقلقا لهذين فهو مطمئن لنا، ووصولها إلى السلطة يربط مصر بأمتها ومحيطها بعد محاولات النظام السابق أن يعزلها منذ كامب ديفيد، وأن تكون مصر عربية إسلامية هو أمر طبيعي، والغريب أن تكون غير ذلك. إنما المشكلة أن تقتسم هذه الأحزاب السلطة مع المجلس العسكري الذي لا يطيقه الناس. وإن موقع مجلس الشعب اليوم كموقع بعض مرشحي الرئاسة أيام أحداث محمد محمود، أرادهم الناس قادة يخلعون المجلس العسكري فإذا بهم يطلبون الوزارة في ظل المجلس العسكري، وكنت كتبت عندها أن بعض الناس سيكون بطلا لو طلب منصب رئيس الجمهورية ومتخاذلا لو طلب منصب رئيس الوزراء. مشكلة البعض مع جماعة الإخوان المسلمين ليست خوفا من وصول الجماعة إلى السلطة، بل خوفا من تفريط قيادة الجماعة فيها لصالح المؤسسة العسكرية، أي لصالح جهة مسلحة غير منتخبة تمويلها وتدريبها وسلاحها يأتي من الولاياتالمتحدة تحديدا. وإن من المفارقات المرة أن كل القادة السياسيين، إسلاميين وعلمانيين، في مصر بل وبعض اللامعين من الشباب يبدون كمن لا ثقة عنده في قدرة الشعب المصري على إسقاط نظام الحكم، تحديدا في السنة التي أسقط فيها الشعب المصري نظام الحكم، فلا مرشح الرئاسة المذكور جرؤ على خلع العسكر في الميدان ولا حزب الأغلبية البرلمانية جرؤ على خلع العسكر في البرلمان، لأن كلا الطرفين غير واثق في أن الناس سيحمونه، فإن لم يؤمنوا بالناس هذه السنة فبأي حديث بعده يؤمنون. وأخيرا، فإن كثرة الأعداد في الميادين فندت أيضا مقولة أن البلد منقسم بين إسلاميين وعلمانيين، وأن الإسلاميين يحالفون العسكر ويعارضهم العلمانيون، فعشرات الملايين الذين نزلوا إلى الشوارع في كل محافظات مصر انتخبوا الإسلاميين وتظاهروا ضد العسكر. هي رسالة لقادة الأحزاب الإسلامية، ما لكم تتصرفون تصرف الضعيف ووراءكم من الناس من وراءكم، وما لكم تتقاعسون عن تنفيذ ما انتخبكم الناس من أجله، وهو أن تخلصوهم من حكم عسكري يطلق النار على العيون ويكشف عورات النساء في الشوارع ويتبول على رؤوس العباد. وإن قلتم إنكم ستصبرون ستة أشهر أخرى، فهل تضمنون ألا يسفك العسكر فيها دما، وهل تضمنون ألا يسفك الدم خصيصا ليورطكم وليظهركم بمظهر الشريك، فإن الدم الذي سيسفكه وأنتم في الحكم غير الدم الذي سفكه وأنتم في بيوتكم، سيحملكم المسؤولية معه، وسيحملكم الناس مسؤولية خذلانهم؟ لذلك، فمجلس الشعب مدعو إلى خلع المجلس العسكري؛ فإن لم يفعل، وهو لن يفعل، فليصدر قانون الانتخابات الرئاسية، وليعلن عن فتح باب الترشح فيها؛ فإن لم يفعل، فليتحمل تبعة الناس في الشوارع. انتخبناه ليحمينا لا ليهدئنا. يا قادة البلاد، أنتم على بعد أيام من النصر فلا تضيعوه ولا توكلوا به من ليس له أهلا، ولا تتبرعوا بنصف ملك مصر لمن لا يحق له منه شيء.