عدت للتو من ميدان التحرير لكتابة هذا المقال، وقد تجمع في الميدان كل أطياف المجتمع المصري، ففيه الإسلامي والاشتراكي والليبرالي والقومي والمستقل، وأكثر غير منتم إلى أي حركة سياسية بعينها، اللهم انتماءه إلى الأخلاق والحق والعدل في هذه الدنيا. أهل ميدان التحرير اليوم هم أهله في أول أيام الثورة، بشر أسوياء لم يرضوا أن يضرب المصاب وأن تؤخذ منه عكازته، وأن يصوب الجندي بندقيته من بعيد وبهدوء على أعين الناس عامدا متعمدا. هم بشر عقلاء يدافعون عن أعينهم هم وأعين أولادهم لكي لا يحكم مصر حاكم أو مجلس حكام يأمر جنوده بالتصويب عليها، يدافعون عن دمائهم ودماء أولادهم لكي لا يحكم مصر من يقدر، بأمر عبر جهاز لاسلكي، أن يسفكها ثم لا يُحاسب، وهم يدافعون عن كرامتهم واستقلال بلادهم لكي لا يحكمهما من كان ماله وسلاحه وتدريبه آتيا من الولاياتالمتحدةالأمريكية تجلسه على رؤوس الناس ظلما وعدوانا. وكالعادة، فقد بيّن الميدان الفرق بين الشعب وقيادات تنظيماته السياسية، وكان الفرق لصالح الشعب طبعا، فمن الخزي والعار أن تنقسم القيادات السياسية الإسلامية والعلمانية ما بين مشتاق إلى نصيبه من الوزارة يسميها وزراة إنقاذ وطني، وما بين مشتاق إلى نصيبه من البرلمان يسميه تجسيدا للإرادة الشعبية، وينسى الطرفان أن الوزارة بلا سلطة وأن البرلمان بلا سلطة وأن كل السلطة في يد المجلس العسكري. إن هذه الفترة الانتقالية طالت أكثر مما ينبغي، وقد كذب من كذب على الشعب المصري حين وعده بانتهائها في ستة أشهر. وكان لا بأس بطولها لو لم يدفع المصريون ثمن التأجيل دما يسفك وعيونا تفقأ ونشطاء يحبسون واثني عشر ألفا من المصريين المدنيين يحاكمون أمام المحاكم العسكرية، ناهيك عن التساهل في أمن مصر القومي، حيث تم إهمال الملف الليبي حتى أصبح الناتو يعسكر على حدودنا الغربية، وإهمال الملف السوري حتى أصبحت سوريا مهددة بحرب أهلية وتدخل دولي، بل وأقرب من ذلك، حيث أصبحت إسرائيل تقتل جنودا مصريين، ثم يستقبل وزير الخارجية المصري السفير الإسرائيلي في المطار، وكأن وزيرنا أدنى من سفيرهم. وقد بين المجلس العسكري نيته البقاء حاكما للبلاد عبر ما سمي بوثيقة السلمي، وما كانت إلا إعلان نوايا، وربما كان القبول بما فيها من تسليم السلطة الفعلية إلى العسكر ثمنا لسماح العسكر بإجراء الانتخابات البرلمانية، فلما رُفضت قرر حاكمو البلاد أن يعاقبوا الشعب المصري بفقء العيون وقتل الأولاد. أما القوى السياسية المصرية، فمن ليبرالي مشتاق إلى وزارة لا حول لها ولا قوة، يريدها ليستقيل منها بعد أن يكتشف أنه بلا صلاحيات آملا أن يكون نسخة محسنة من سعد زغلول، ومن إسلامي يشتاق إلى مقعد في برلمان لا حول له ولا قوة آملا أن يستخدمه وسيلة للاحتجاج لا أكثر. إن قوة الشارع المصري تقدر أن تفرض أكثر من هذا، وأظن أن أهل الميادين في مصر قادرون على أن يفرضوا على هذه السلطة الحاكمة انتخابات رئاسية فورا، تجري بالتزامن مع الانتخابات البرلمانية. وإجراءات الانتخابات الرئاسية متوفرة في الدستور وفي الإعلان الدستوري المعدل، وإصدار مرسوم بفتح باب الترشح في الانتخابات الرئاسية من صباح الغد ممكن، بل وضروري، لنضمن أن يشرف على المرحلة الانتقالية رئيس مدنى ولاؤه للشارع الذي أتى به، ولنضمن أنه لن يطلق النار على أولادنا إذا اعتصموا أو تظاهروا. إما هذا، وإما أن يقوم الشعب المصري باختيار قيادة، هي لا بد ستظهر، لا ترغب في حكم ولا منصب، لا تشتاق إلى وزارة ولا إلى برلمان، وإنما همها حماية دماء الناس وأرواحهم، وأن يعتبرها الناس أولى بالطاعة من حكومة لم يخترها أحد، تقتل من تشاء وتحبس من تشاء بغير حساب. أيها الساسة ذوو السترات الأنيقة والنبرات الهادئة والعقلانية التي لا عقل لها، والهدوء الذي يكلف دما وعيونا، تعبنا وتعب الناس من دعوتكم إلى أن تتوحدوا لتقودوا هذا البلد، أخذ الناس عرش مصر من مغتصبيه وداروا عليكم واحدا واحدا يعرضونه عليكم بشرط واحد أن تكونوا رجالا بما يكفي لحمايتهم والوقوف بجانبهم إذا قتلوا، وألا تشتاقوا إلى كراسٍ لا خير فيها ولا معنى لها، وتعبنا وتعب الناس من دعوتكم لكي تفككوا آلة القمع، وأن تبنوا وزارة داخلية غير هذه التي تقتلهم، أن تعاركوا بعضكم بعضا على وثائق لا تساوي الحبر الذي كتبت به إلى أن أصبح الثوار بين قتيل وجريح وأسير. واليوم، تواصلون هذا الرخص والناس موتى، طالبوا بما يساويه الدم، طالبوا بحكم مصر كله غير منقوص، خذوه فهو لكم إن كنتم شجعان بما يكفي لمد يدكم إليه.