مباشرة بعد انهيار نظام معمر القذافي، صدرت تقارير عديدة عن أجهزة استخباراتية تهتم بالوضع العام في منطقة الساحل جنوب الصحراء، تتحدث عن التحديات الجديدة التي يفرضها وصول أسلحة متطورة كانت موجودة في ترسانة النظام الليبي السابق إلى الجماعات المسلحة، سواء كانت ذات منحى أصولي أو ذات منحى انفصالي. ويبدو من قراءة أولية لأغلب هذه التقارير أنها تريد التأسيس لواقع جديد أكثر مما هي تشخيص لواقع قائم. وبتعبير آخر، فإن هذه التقارير تعاملت مع الوضع انطلاقا من مصالح الدول التي عملت أجهزتها الأمنية على إعدادها. ولعل الكثير من المعطيات الواردة في هذه التقارير، والتي تدوولت إعلاميا بكثافة دون تمحيص، هي التي تدفع بعض الإعلاميين والمراقبين والباحثين إلى الترويج لأطروحة «أفغنة» منطقة الساحل والصحراء. يستغل الوضع القائم راهنا في شمال مالي للحديث بقوة عن أطروحة «الأفغنة». ويستند في ذلك إلى سيطرة جماعات سلفية مسلحة كجماعة أنصار الدين وحركة التوحيد والجهاد في غرب إفريقيا على المدن الثلاث الرئيسية في شمال مالي، وهي «كيدال» و«جاو» و«تومبوكتو»، أو إقدام جماعة انفصالية مسلحة على إعلان استقلال شمال مالي وهي «الحركة الوطنية لتحرير أزواد». وكل هذه التطورات جرت في سياق الانقلاب العسكري الذي أطاح بالرئيس المالي المنتخب ديمقراطيا «أمادو توماني توري» يوم 22 مارس 2012. إن مروجي أطروحة «أفغنة» الساحل والصحراء يعمدون إلى التقاط بعض الوقائع لإضفاء المشروعية على أطروحتهم، ومنها إجراء مقارنة بين ما قام به نظام طالبان عندما شرع في هدم التماثيل الضخمة التي تؤرخ للوجود البوذي في أفغانستان وما تقوم به جماعة أنصار الدين في «تومبوكتو» بشروعها في هدم «الأضرحة» التي تعتبرها مخالفة لروح الإسلام. إن التعامل النقدي مع أطروحة «أفغنة» منطقة الساحل والصحراء تقتضي التوقف عند ملاحظتين مركزيتين: تتمثل الملاحظة الأولى في كون غياب مؤسسات الدولة أو ضعفها ليسا مرتبطين بالتطورات التي تشهدها المنطقة بعد سقوط نظام معمر القذافي بقدر ما هما معطيان بنيويان في المنطقة. وهذان المعطيان البنيويان هما اللذان سمحا لبعض قادة الجماعة السلفية للدعوة والقتال الجزائرية سابقا والقاعدة في بلاد المغرب الإسلامي حاليا بإيجاد مواطئ قدم لهم في المنطقة؛ فمعلوم أن مختار بلمختار، قائد كتائب الملثمين، كان يراقب منطقة شمال غرب مالي قرب الحدود مع موريتانيا، وعبد الحميد أبو زيد، قائد سرية طارق بن زياد، كان يراقب منطقة شمال شرق مالي غير بعيد عن الحدود مع دولة النيجر. تتجلى الملاحظة الثانية في كون سكان منطقة الساحل، في غياب الدولة أو ضعف مؤسساتها اعتادوا على العيش في ظل سلطة المجموعات القبلية (الطوارق أساسا) أو المجموعات الدينية (الطرق الصوفية)، مع التذكير بصعوبة التمييز في أحايين كثيرة بين النسق «القبلي» و«النسق الديني». وإذا كانت الطرق الصوفية شكلت خلفية ثقافية لسكان هذه المنطقة، فإن هؤلاء السكان أنفسهم بدؤوا يستأنسون بالعقيدة السلفية ومضطرون إلى التعامل معها لاعتبارات «براغماتية» صرفة. تتجسد أهمية الملاحظتين السابقتين اللتين اعتبرناهما مركزيتين في كونهما تشيران إلى أن الوضع الذي توجد فيه منطقة الساحل، جنوب الصحراء، ليس وضعا جديدا، على الأقل في نظر سكان المنطقة؛ فقبل أن تتأسس جماعة أنصار الدين أو حركة التوحيد والجهاد في غرب إفريقيا أواخر سنة 2011، اعتاد سكان شمال مالي التعايش منذ سنوات مع الخلايا التابعة لتنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي؛ كما أن الحركة الوطنية لتحرير أزواد، التي تطمح إلى إقامة دولة أزواد المستقلة، ليست تعبيرا جديدا عن نزعة انفصالية طارئة، فهذه النزعة متأصلة في المنطقة منذ سنة 1958. يركز مروجو أطروحة «أفغنة» منطقة الساحل جنوب الصحراء على بعض المظاهر: وجود جماعات مسلحة ورغبة في فرض الخيارات السلفية وتجنب طرح الأسئلة حول مدى توفر الشروط الأساسية لإعادة إنتاج «الأفغنة»، فنظام طالبان بقيادة الملا «محمد عمر»، الذي حكم أفغانستان ابتداء من سنة 1996 قبل إسقاطه من قبل الولاياتالمتحدةالأمريكية أواخر سنة 2001، فرض سيطرته بفضل الدعم العسكري والسياسي للنظام الباكستاني، كما أن تنظيم القاعدة العالمي بقيادة أسامة بن لادن وأيمن الظواهري تأسس برعاية «طالبانية»، كما أن حالة «الأفغنة» ساهم في تكريسها التداخل الموجود بين طالبان أفغانستان وطالبان باكستان والتي شكلت إحدى مناطقها، وهي منطقة وزيرستان الباكستانية، درعا واقيا ولو بشكل جزئي لقيادات طالبان وتنظيم القاعدة. ومثل هذه الشروط التي شكلت حاضنة لولادة الحالة الأفغانية غير موجودة في منطقة الساحل جنوب الصحراء. أكيد أن التشابه الوحيد يتعلق بذلك التفاعل بين المعطى القبلي والمعطى الديني لكل من أفغانستان ومنطقة الساحل، غير أن «مخرجات» هذا التفاعل تبدو مختلفة، الأمر الذي يدفع إلى طرح سؤال التوظيف السياسي لأطرحة «الأفغنة». إن التعاطي مع الوضع في منطقة الساحل جنوب الصحراء لا ينبغي أن يستحضر ظهور فاعلين جدد فقط، بل ينبغي أن يأخذ بعين الاعتبار الحسابات السياسية للأطراف التي تعتبر نفسها معنية بما يجري في المنطقة، سواء كانت دولا غربية أو دولَ جوار. وهذه الحسابات تتجلى في الخلاف الذي طفا على السطح في ما يخص مبادرة «المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا» إلى إرسال قوة عسكرية قوامها ثلاثة آلاف عنصر إلى شمال مالي؛ ففي اللحظة التي أيدت فيها كل من موريتانيا ودولة النيجر التدخل العسكري تحفظت دولة بوركينا فاصو نظرا إلى كون رئيسها يلعب دور الوساطة، حيث التقى بممثلي «الحركة الوطنية لتحرير أزواد» قبل أن يلتقي بممثلي جماعة أنصار الدين يوم 9 يونيو 2012. تعبر الحسابات السياسية عن نفسها بشكل جلي من تغير مواقف الجزائر، فبعدما كانت ترفض أي تفاوض مع الجماعات المسلحة التي تعتبرها إرهابية، رفضت بشكل حاسم مبادرة التدخل العسكري شمال مالي ودعت إلى حل سياسي قائم على التفاوض. وفي اللحظة التي تداولت فيها بعض الجهات أخبارا عن إمكانية استصدار قرار من مجلس الأمن للتدخل العسكري، سارعت الجزائر إلى استدعاء بعض سفراء الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن للتشاور معهم في خطوة تهدف إلى حث بلدانهم على استعمال حق النقض ضد أي قرار يسمح بالتدخل العسكري، خاصة من قبل روسيا أو الصين. هناك سؤال يحتاج إلى إجابة واضحة: هل ظهور «الحركة الوطنية لتحرير أزواد» هو تعبير عن درجة الانفلات الأمني الذي وصلت إليه المنطقة أم إن الأمر يتعلق بمحاولة لإعادة ضبط التوازنات من خلال مواجهة الجماعات السلفية المسلحة بجماعة انفصالية؟ هناك تداول لمعطيات حول مشروع طرحه ساركوزي يتمثل في تسليح حركة أزواد من أجل مواجهة القاعدة في المغرب الإسلامي، ولا ندري هل شرع ساركوزي عندما كان في الرئاسة في تنزيل مشروعه، كما أن حسابات الجزائر لا يمكن ألا تستفيد من مثل هذا المشروع. ويمكن، على ضوء ذلك، فهم ما كان قد صرح به المتحدث باسم الحركة الوطنية لتحرير أزواد «موسى آغ الطاهر» من أن إقامة دولة أزواد ستكون عامل استقرار في منطقة الساحل الإفريقي.