ظل المراقبون يركزون على طبيعة التداعيات التي يمكن أن تترتب عن سقوط نظام معمر القذافي، خاصة في ما يتعلق بالوضع في منطقة الساحل والصحراء جراء تدفق الأسلحة وإمكانية استخدامها من قبل مجموعات طامحة إلى إعادة ترتيب الأوضاع بما يخدم مصالحها في النهاية، بصرف النظر عن طبيعة تلك المصالح. ويبدو أن تلك التداعيات أفصحت عن نفسها بشكل سريع، حيث لم يعد الحديث مقتصرا على «تنظيم قاعدة الجهاد في بلاد المغرب الإسلامي»، بل أصبح تنظيمان جديدان يفرضان نفسيهما وهما «جماعة أنصار الدين» و«حركة التوحيد والجهاد في غرب إفريقيا». إن السؤال الذي يطرح في سياق التطورات السريعة التي انتهت بتمكن «جماعة أنصار الدين» و«حركة التوحيد والجهاد في غرب إفريقيا» من مراقبة أهم مدن شمال مالي، والمتمثلة في «كيدال» و«جاو» و«تومبوكتو»، يتحدد في طبيعة العلاقة بين هذين التنظيمين «السلفيين» و«تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي». هناك رؤيتان أو قراءتان في ما يخص تحديد العلاقة بين التنظيمات السلفية المسلحة في هذه المنطقة: الأولى تشير إلى تقسيم للأدوار؛ والثانية تشدد على صراع المواقع والنفوذ. تذهب القراءة الأولى إلى كون «تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي» كان فاعلا مركزيا في المنطقة قبل سقوط نظام القذافي، فأصبح بعد ذلك مضطرا إلى الانضباط للخيارات التنظيمية للقائد الجديد ل«تنظيم القاعدة» العالمي أيمن الظواهري؛ فمعلوم أن أسامة بن لادن تمكنت القوات الأمريكية من اغتياله في عز الأزمة الليبية شهر ماي 2011؛ وأسامة بن لادن كان يفضل، تنظيميا، أن يشكل تنظيما مركزيا في كل منطقة يعتبرها استراتيجية، كالعراق وبلاد الحجاز والمغرب الإسلامي؛ كما كان يفضل عدم التركيز على العدو «القريب» المتمثل في الأنظمة الطاغوتية، بل كان يولي الاهتمام لضرورة مواجهة العدو «البعيد» المتمثل في الأنظمة الغربية. غالبا ما يحاول المراقبون التعرف على تأثيرات سقوط نظام القذافي على التفاعلات التي تشهدها منطقة الساحل جنوب الصحراء دون الالتفات إلى تأثيرات وصول أيمن الظواهري إلى زعامة «تنظيم القاعدة»، فهذا الرجل قبل تحالفه مع أسامة بن لادن كان على خلاف معه على مستوى الخيارات التنظيمية، من جهة أولى، وعلى مستوى تحديد الأولويات، من جهة ثانية؛ فأيمن الظواهري كان يفضل التركيز على العدو القريب من خلال مواجهة الأنظمة القائمة في الدول العربية على أساس أن ينفرد أبناء كل دولة بمواجهة نظامهم والعمل على إلحاق الشلل بمؤسساته وآليات اشتغاله. من هذه الزاوية، يبدو الإعلان عن ميلاد «جماعة أنصار الدين» و«حركة التوحيد والجهاد في غرب إفريقيا» كإعادة تحيين للخيارات التنظيمية لأيمن الظواهري، بحيث يختص التنظيم الأول في مراقبة شمال مالي ويسعى التنظيم الثاني إلى التركيز على غرب إفريقيا، خاصة السينغال وساحل العاج، في حين ينحصر دور «تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي» في الاهتمام بالداخل الجزائري؛ هذا مع التذكير بأن الأمر، من خلال هذه القراءة، لا يتعلق بترسيم حدود قاطعة بين هذه التنظيمات بقدر ما يتعلق باقتسام الأدوار. وهذه القراءة تستند أساسا إلى العلاقة الوثيقة الموجودة بين «القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي» و«جماعة أنصار الدين»، فحسب المعلومات المتوفرة فإن «جماعة أنصار الدين» استولت على مدينة كيدال، شمال مالي، في شهر أبريل 2012 من خلال عملية مسلحة شارك فيها ثلاثة قياديين من قاعدة المغرب الإسلامي، وهم: مختار بلمختار، قائد كتائب الملثمين، وعبد الحميد أبو زيد، قائد سرية طارق بن زياد، ويحيى أبو الهمام، قائد سرية الفرقان. بالموازاة مع هذه القراءة التي تجعل تعدد التنظيمات السلفية المسلحة منضبطا بمنطق تقسيم الأدوار مع بقاء اليد الطولى ل«تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي»، هناك قراءة ثانية تنظر إلى الأمر باعتباره صراعا على النفوذ والمواقع بين كتل قبلية وإثنية تروم تحقيق مصالح خاصة بها باسم تطبيق صحيح للدين. انطلاقا من هذه القراءة التي نقدمها، يمكن تفسير تنوع التنظيمات السلفية المسلحة بسببين أساسيين: يتمثل السبب الأول في رغبة كثير من المقاتلين داخل صفوف «تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي» من ذوي الانتماءات غير الجزائرية في التحرر من هيمنة القيادة ذات الأصول الجزائرية؛ فمعلوم أن التنظيم الأخير كان امتدادا ل«الجماعة السلفية للدعوة والقتال» بالجزائر؛ ورغم مبايعة هذه الجماعة لأسامة بن لادن في شتنبر 2006 وتغيير الاسم في يناير 2007، فإن القيادة ظلت وقفا على الجزائريين، أمثال أبو مصعب عبد الودود ومختار بلمختار وعبد الحميد أبو زيد... إلخ. هذا الوضع هو الذي يفسر كون معظم مكونات «جماعة أنصار الدين» تنتمي إلى قبائل الطوارق في مالي، إضافة إلى أشخاص كانوا يعملون في الجيش الموريتاني. ومعلوم أن قائد «جماعة أنصار الدين» هو إياد آغ غالي، أحد الدبلوماسيين السابقين لدولة مالي في المملكة العربية السعودية، وهو من سكان مدينة كيدال، شمال مالي. إن ما ينطبق على «جماعة أنصار الدين» ينطبق أيضا على «حركة التوحيد والجهاد في غرب إفريقيا» التي يبدو أنها تسعى إلى التخلص من هيمنة الجزائريين داخل «تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي»، فأغلب مكوناتها تنتمي إما إلى أزواد، شمال مالي، أو إلى موريتانيا أو هي عناصر محسوبة على جبهة البوليساريو، إضافة إلى مجموعات «زنجية» تنتمي إلى دول غرب إفريقيا، ويوجد على رأس هذا التنظيم حمادة ولد خيرو الموريتاني، كما أن المتحدث الرسمي باسمه هو أبو وليد عدنان الصحراوي. هناك مؤشران يعززان هذه القراءة، المؤشر الأول ذو صلة برغبة «جماعة أنصار الدين» في التقارب مع «حركة تحرير أزواد» التي تطمح إلى إقامة دولة وطنية خاصة بها شمال مالي. وقد كاد هذا التقارب يتحقق يوم 26 ماي 2012 عندما اتفق التنظيمان على تأسيس «المجلس الانتقالي لدولة أزواد الإسلامية»، وهو تقارب يفيد بأن جماعة أنصار الدين تسعى إلى القطع مع خيارات «قاعدة الجهاد في بلاد المغرب الإسلامي»؛ والمؤشر الثاني ذو ارتباط بما أقدمت عليه «حركة التوحيد والجهاد في غرب إفريقيا» في تحديد مرجعياتها ومجال نشاطها، فقد حددت هذا المجال في كل من مالي والسينغال وساحل العاج، كما حددت مرجعياتها في أسامة بن لادن والملا عمر وبعض المشيخات «الزنجية» كعثمان دان فودو من نيجيريا والحاج عمر تل من السينغال وحماد وشيخو من مالي مع عدم الإشارة، إن من قريب أو بعيد، إلى أبي مصعب عبد الودود. يكمن السبب الثاني في الخلاف حول عائدات اختطاف الرعايا الأجانب في منطقة الساحل، خاصة بين» تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي» و«حركة التوحيد والجهاد في غرب إفريقيا» التي أعلنت انشقاقها عن التنظيم الأول؛ فمعلوم أن تنظيم أبي مصعب عبد الودود قد استفاد من العائدات المالية الضخمة التي حصل عليها من بعض الدول الغربية، وفي مقدمتها إسبانيا، في مقابل إطلاق سراح رعاياها المختطفين؛ وأكيد أن هذه العائدات استفادت منها قيادات القاعدة رغم أن عمليات الاختطاف كانت تنفذها مجموعات «قاعدية» لا تحصل إلا على تعويض مالي قليل. وهذا الوضع كان محفزا لبعض المرتبطين بالقاعدة من بين ذوي الأصول غير الجزائرية على التفكير في القيام بعمليات الاختطاف لحسابهم الخاص. وفي هذا الإطار، يمكن تفسير بعض أسباب ظهور «حركة التوحيد والجهاد في غرب إفريقيا». ومما له دلالة في هذا الإطار كون هذه الحركة حددت منذ البداية جملة من الأهداف، في مقدمتها اختطاف الرعايا الغربيين، حيث ارتبط اسمها لأول مرة بعملية اختطاف ثلاثة رعايا أجانب، إسبانيين اثنين وإيطالي، في شهر أكتوبر 2011 غرب الجزائر، حيث تطالب -مقابل إطلاق سراحهم- بفدية يصل مبلغها إلى ثلاثين مليون دولار؛ كما اختطفت في شهر أبريل 2012 بمدينة «جاو»، شمال مالي، سبعة دبلوماسيين جزائريين وتطالب -للإفراج عنهم- بمبلغ خمسة عشر مليون دولار.